ذاكرة مؤلمة على كتل كونكريتية

"عراق الصبات": خرسانات جديدة تجثم على صدر بغداد وأخرى تحصد أرواح السائقين

بغداد - IQ  

كالنار في الهشيم تنتشر في منصات التواصل الاجتماعي معلومات مضللة عن تحركات عسكرية و"انقلابات"، بهدف التصعيد تنسجم مع مصلحة أطراف من المتسببين بـ"الانسداد السياسي" الذي تشهده البلاد منذ أشهر، فيما تتكثف دعوات للمشاركة في تظاهرة واسعة تنطلق في اليوم الأول من الشهر المقبل، لإحياء "تشرين ثانية".


على الأرض تتحرك القطاعات العسكرية لتنفيذ عمليات أمنية تتسبب بقطع طرقٍ، وانتشار أمني مكثف في بعض المناطق، وتنشر صبات كونكريتية في مناطق أخرى، لا سيما في العاصمة بغداد والمناطق المحيطة بالمنطقة الخضراء.


اسمها قلق.. هي القلق بحد ذاته

"عراق الصبات"


الصبات المفاجئة، وتغيير خريطة مسار المركبات، نذير شؤم بالنسبة للبغداديين، وتعيد تذكيرهم بسنوات الحرب الطائفية، والتوترات الأمنية، يقول أبو وسام، وهو سائق تاكسي مخضرم، يزاول هذه المهنة منذ أكثر من 30 عاماً: "الصبات تتعايش معنا، نجدها أينما نذهب، وتكبر معنى".


"اسمها قلق.. هي القلق بحد ذاته، من المؤسف أن يحدث للعراق هذا..إنه عراق الصبات"، يقول أبو وسام.


يكره أبو وسام الانتشار المفاجئ للصبات مرة أخرى في بعض شوارع بغداد الرئيسة، يقول إن "المدن تختنق بالصبات، تعزلها وتشوه واجهتها، هذا ما فعلته خلال أيام الحرب الطائفية (2006-2007)"، وذلك في تصريح لموقع IQ NEWS.


وبينما يؤدي ملايين المسلمين الشيعة شعيرة المشي سيرا إلى كربلاء خلال الزيارة الأربعينية التي انتهت السبت الماضي، كانت الأجهزة الأمنية تعزز بوابات المنطقة الخضراء بالصبات الكونكريتية، لا سيما في بوابة التشريع والتخطيط وإغلاق الثغرات الموجودة من جهة الجسر المعلق، وبالقرب من فندق الرشيد أعلى نفق الزيتون، وفيما تتكدس صبات كبيرة على الجسر الجمهوري، شُيدت بوابة حديدية في مقدمة الجسر من جهة ساحة التحرير، لم يتبين الجهة التي تقف وراءها.

محاولات التواصل مع قيادة عمليات بغداد، لفهم أسباب وخريطة توزيع الصبات المفاجئة في العاصمة قوبلت بالامتناع عن التصريح: "الحديث عن نصب ورفع الصبات يعتبر تسريبا أمنياً.. لا نعرف ما سيحدث في الأيام المقبلة".


ذاكرة على كتل كونكريتية 


بينما كانت الصواريخ تدك العاصمة بغداد، تحرك المئات من العرب والمسلمين الأجانب مدفوعين بعشرات الفتاوى الجهادية لمحاربة الاحتلال الأمريكية التي تحاول دخول البلاد، بيد أن مشاركتهم سبقها إعلان سقوط بغداد في 9 نيسان 2003. هؤلاء "الجهاديون" يضاف إليهم بعثيين مجتثين وفدائيين وضباط، خاضوا معارك شرسة ضد المصالح الأمريكية في العراق، انحرفت البوصلة لاحقاً لمواجهة مجاميع مسلحة مذهبية حولت العاصمة بغداد وبعض المحافظات الأخرى إلى ساحات اقتتال طائفي استمرت أكثر من عامين.


التفجيرات الانتحارية والعبوات الناسفة واللاصقة أكثر ما داهم المباني الحكومية والمراكز الأمنية، وكان الإجراء لذلك إحاطة هذه المباني بالصبات المرتفعة، ثم تعقدت الظروف الأمنية أكثر، حتى نمت الصبات في الشوارع المسقية بالدماء، وعُزِلَت المنطقة الخضراء، مقر حكومة النظام الجديد، لحقها عزل مدن كبيرة عن بعضها، وأشهرها عزل مدينة الصدر، التي يتذكر سكانها ذلك، ويسمونه "الحصار" بين عامي 2006 و2007، إبان الاشتباكات بين "جيش المهدي"، والقوات الأميركية.

وما إن هدأت وطأة الحرب الطائفية، عملت الأجهزة الأمنية على رفع بعض الصبات من مناطق معينة، وعند محاولة رفع بعض منها عام ٢٠٠٩، استهدفت عجلات مفخخة مبنيي وزارة الخارجية، ووزارة المالية، وقد أدى الانفجار إلى عشرات القتلى، وحفرة كبيرة أمام مبنى الخارجية، وانهيار واجهة وزارة المالية التي صممها المهندس المعماري قحطان المدفعي. 



فتوحات أمنية


الحكومات التي أدارت البلاد بعد سنوات 2014، تعاملت مع مسألة رفع الصبات الكونكريتية في العاصمة بغداد على أنها فتح أمني، غير مسبوق، رغم حدوث انفجارات هنا وهناك، تسارع الصبات في تطويق مكانها، أبرزها إحاطة واجهة مثلجات الفقمة بعد استهدافها عام 2017، واغلاق مجمعي هادي سنتر والليث بالصبات بعد استهدافهما عام 2016.. لا زالت الصبات تنبت على سقي الدم.


ومع تولي عادل عبد المهدي رئاسة الحكومة، وهزيمة تنظيم داعش عام 2017، عملت إدارته على رفع مئات الصبات من المناطق والشوارع والمباني الحكومية وفتح المنطقة الخضراء، إيذانا بـ"عودة الأمن لبغداد"، مرفوقة بحملة دعائية كبيرة طالما حملت وسم "#شيل ـ الكونكريت"، عام 2018، لكن هذه الدعاية لم تستمر طويلا، فبعد اندلاع تظاهرات تشرين الأول عام 2019، سارعت الصبات على الوقوف بوجه المتظاهرين بقوة على جسري الجمهورية والسنك، ومن جهة حافظ القاضي وشارع السعدون، في محاولة لحصر المحتجين في ساحة التحرير.


وبعد انحسار التظاهرات مع تفشي فيروس كورونا في البلاد، رُفعت صبات من المناطق القريبة على الاحتجاجات، ونبتت صبات في مداخل بعض المناطق، لفرض حظر التجوال الصحي، للحد من تفشي فيروس كورونا، ولازالت الصبات تتحرك من مناطق وتستقر في مناطق أخرى، حتى داهمت تظاهرات مدعومة من التيار الصدري المنطقة الخضراء، لم تنجح الصبات هذه المرة بالوقوف في وجهها، دخلها المحتجون وصلّوا في المنطقة الخضراء، واقتحموا القصر الجمهوري لاحقا، قبل انسحابهم بدعوة من زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إثر اشتباكات مسلحة استمرت ليلة كاملة.

"لا ذنب للصبات"


صبات أقل حجما من التي تحضن المنطقة الخضراء، تتوسط العديد من الطرق في العاصمة، والطرق الخارجية ومداخل المحافظات، لا تزال تودي بحياة موطنين، إثر اصطدام مركباتهم بها، كان آخر ضحايا مواطن في منطقة جرف النداف في بغداد يوم أمس، و3 ضحايا في منطقة "5 كيلو" في الأنبار الأسبوع الماضي.

المرور العامة تخلي مسؤوليتها من نصب الصبات في الطرقات، يقود مدير إعلامها زياد القيسي، إن "أمانة العاصمة بغداد هي المسؤول عن نصب الصبات في العاصمة، ودائرة الطرق والجسور التابعة لدائرة الإسكان، هي المسؤولة عن نصبها في الطرق الخارجية"، ويضيف أن "مديرية المرور العامة ليس لها علاقة في قضية الصبات سوى الاستشارة".


ويضيف القيسي في تصريح  لموقع IQ NEWS: إن "اللوم الأول والأخير يقع على سائق المركبة وليس على الصبات الكونكريتية لعدم انتباه السائق وعدم تطبيق الإرشادات والسرعة المفرطة في السياقة التي تتسبب بالحوادث".


"العلامات أفضل، أكثر حضارية، الصبات في منتصف الطرق خطرة وتتسبب بحوادث سير"، يقول ذلك السائق أبو وسام وهو ينظر إلى الصبات قرب بوابة التخطيط المؤدية إلى المنطقة الخضراء.