"البطانيات المشؤومة".. من "قماصل" للعراقيين في الحصار إلى حمالة لـ"المتفحمين" في مستشفى الحسين

غسان البرهان- IQ  


على السور الخارجي للمستشفى وقرب بواباتها، صاح عددٌ من الشباب الذين قدموا لنجدة المحاصرين بين نيران مركز العزل في مستشفى الحسين التعليمي، وبأعلى اصواتهم، لجلب بطانيات من المنازل المحيطة بالمستشفى، فالجثث كثيرة، والبطانيات التي تلم الأشلاء بدأت بالنفاد.


حينما نشبت النيران في "السندويش بنل" سريعة الاشتعال، المادة التي يتكون منها كرفان العزل، كان محمد فالح قريبا من المستشفى ولاحظ ارتفاع ألسنة النيران، فسارع إلى المبنى، ووصل إلى مكان الحادث قبل وصول سيارات الإطفاء، ولم يكن هناك سوى عدد من الموجودين في المستشفى والملاكات الصحية.


"لم نكن نعرف ماذا نفعل، الكل مرعوب وخائف.. الممرضات تركض.. على بعد أمتار من البوابة التي التهمتها النيران تنقطع الرؤيا ولا يدل على الموجودين داخل الجملون غير صراخهم الذي انقطع شيئا فشيئا"، يقول فالح، لموقع IQ NEWS.


ويضيف، الشاب وهو من مواليد 2001: "شابٌ لا نعرفه جلب بطانية من مكان ما، بللناها بما توفر لدينا من مياه، دخل وخرج بعد ثواني، قال إنه لا يستطيع التنفس والحرارة تفوق قدرته على التحمل.. كان الدخان الأسود كثيفا يمنع الرؤيا وأغمى على المحاصرين داخل الجملون".


ويردف: "وصل عدد من الذين نعرفهم باحتجاجات الحبوبي، قبل سيارات الإطفاء، وحينما حضرت سيارتان كانت إحداهما تفتقد لـ"هوز" ضخ المياه، والأخرى ممتلئة حتى النصف، وبذلك فقدت مياهها قبل أن تخمد شيئا، على كلٍ فلم نعد نسمع أصوات المحاصرين بين النيران".


ويكمل: "الشباب الوافدون إلى المستشفى والموجودون فيها جلبوا كل البطانيات المتوفرة في المكان، وما إن نجد جثة حتى نلمها في بطانية يحملها 5 أو 4 أشخاص وينقلونها بـ’’ستوتات’’ إلى الطب العدلي مباشرة"، مضيفا "كان الماء يقع على صفائح الجملون ويتبخر، ورغم هذا رفع الشباب الصفائح بالعصي، وهكذا نُقِلَت الجثث بالبطانيات المتوفرة، والتي سرعان ما بدأت بالنفاد".


ويمضي قائلا: "حملت 3 جثث لنساء، ليس وحدي بالطبع، إحداهن سمعت صوت الجثة تتكسر داخل البطانية، شعرت أن كلتا يداي لا تقويان على الرفع وأن أصابعي ماتت"، مضيفا "بدأنا نطلب من أصحاب الستوتات الذين ينقلون الجثث بأن يعيدوا البطانيات فور إيصال الجثة إلى الطب العدلي، كما أن بعضهم خرج إلى بوابات المستشفى، وعلى جدارها على الخارجي وقف بعضهم وصرخوا بأعلى أصواتهم: نريد بطانيات".


سمعت صوت تكسر جثة إحداهن داخل البطانية


البطانيات المشؤومة 


ذاكرة العراقيين المعاصرين لحريق مستشفى الحسين التعليمي، والذي راح ضحيته 60 شخصا بحسب الإحصائيات الرسمية، لا تمر خلالها البطانيات مرورا عابرا، اذ انها جزءا شاهدا على مفاصل مهمة في آخر 4 عقود على الأقل.


فمن بديهات الفعل في العراق، نقل جثث الموتى المتوفين بالبطانيات من مكان موتهم، ثم إلى دائرة الطب العدلي، وصولا إلى المغتسل، حيث يستبدلونها بالكفن، وعادة ما يكون مصيرها الرمي، غير أن هناك عادة -وهي غير شائعة- اخذت تتبرز ، حيث ينام أحد أحباء المتوفي بالبطانية التي نقلت جثة الأخير.


ولم يعتد العراقيون على نقل الجثث بالأكياس البلاستيكية المصنوعة خصيصا لهذا الشأن، إلا إبان معارك مواجهة تنظيم داعش، إذ تنقل الجثث المدماة والمقطعة بأكياس بلاستيكية، قبل نقلها إلى مثواها الأخير، من دون تغسيل، كما دأبت العادة بالتعامل مع "الشهداء".


وخلال معارك مواجهة داعش، يقول مرتضى وهو صحفي التحق بقوات الحشد الشعبي، بعد صدور فتوى الجهاد الكفائي في 2014، "البطانية كانت (عزيزة) ومهمة لنا بالأخص نحن صنف المشاة، سواء كان ذلك في فصل الشتاء أو الصيف، ففي الشتاء تقينا من البرد، وخلال الصيف كنا نتفرشها على الأرض، نغطي بيها الصخور والحصى، لا سيما على السواتر".


على الساتر كانت البطانية "عزيزة" في الشتاء والصيف
 

النمر الخشن والبطانيات العسكرية


وبالعودة إلى الوراء، يتذكر كل بيت عراقي تقريبا، بطانيات الجيش التي كانت متوفرة بكثرة، ومعروفة بأنها تثير حساسية جلد من يتغطى بها، كما أنها قاصرة بتأدية وظيفتها الرئيسة المتمثلة بمنح الدفء.


وفي تسعينات القرن الماضي، حتى قبل سقوط النظام السابق في 2003، كانت بطانية النمر الخشنة رفيقة العراقيين خلال أيام الحصار الصعبة، وأكثرها شهرة.


وخلال أيام الحصار أيضا، عمد بعض العراقيين على إعادة تدوير البطانيات بالممكن، وتحويلها إلى قماصل (جاكيتات) تقيهم من برد الشتاء، يؤكد ذلك وسام عبد الرضا، الذي كان شابا آنذاك، وذلك في حديث لموقع  IQ NEWS.


عراقيون حولوا البطانيات إلى "قماصل" في سنوات الحصار

يضيف وسام: "بعد 2003، انتشرت البطانيات الملونة والناعمة، وبعضها محفورٌ عليها كتابات وقلوب حب، وعبارات من قبيل (صباح الخير)، ثم عادت بطانيات النمر، مقلدة وناعمة، لكنها لم تلق رواجا".. "من يرغب باستذكار تلك الأيام؟" تساءل.


ثلاثة في واحدة


وتحضر البطانيات بقوة في ذاكرة النزلاء في سجون النظام السابق، يقول أبو كرار، من محافظة واسط، وهو نزيل في سجن أبو غريب لمدة 10 أعوام، في حديث لموقع IQ NEWS، "لم تكن البطانيات متوفرة، في أحيان كثيرة كنا ننام كل شخصين ببطانية واحدة، وفي بعض المفاصل كنا نتشارك كل 3 بواحدة، كنا نلجأ إلى ارتداء أكبر قدر من الملابس لتخفيف البرد، كما كنا نلجأ لهذه الخطوة في الأيام التي كنا نعرف أننا خلالها للتعذيب، وهو موعد أسبوعي ثابت تقريبا".


رشى انتخابية 


بعد غزو العراق عام 2003 وتاسيس النظام السياسي الجديد، دخلت البطانيات ضمن الحملات الدعائية للمنافسة في الانتخابات البرلمانية، إذ لجأ إليها المرشحون بالإضافة إلى خطوات عديدة أخرى، وعلى الرغم أن هذه الخطوة تتعرض لانتقادات واسعة، الا ان البطانيات الممنوحة كرشى لكسب أصوات الناخبين بقيت تنفد دائما، ورغم هذا، لا يستطيع احد أن يكشف عن مدى تأثير البطانيات على إرادة الناخب.


وفي كل موضع للنقد، يهاجم المعارضون للنظام السياسي الحالي، منتخبي "مرشحي البطانيات"، ولكن هذا بدا واضحا خلال أزمة الكهرباء في طالت البلاد الشهر الماضي، والتي دفعت الكثير إلى توجيه جملة من الانتقادات الساخرة، كان فحوى أبرزها "من حصل على بطانية لانتخاب أحدهم، فليتغطَ بها في عند انقطاع الكهرباء".


أرجو ان يبقى بشرا"


محمد فالح عاد إلى البيت في الساعة الثالثة صباحا، بعد اخماد الحريق تماما، وانتشال الجثث، ونشر في "ستوري" عبر موقع انستغرام.. "لايزال صراخهم في أذني"، وفي ستوري آخر، نقل نصا باللهجة الدارجة، لقي انتشارا ليلة الحادثة: "الناصرية ٢٠١٩ ماكو توابيت، وفي٢٠٢٠ ماكو أوكسجين، وفي ٢٠٢١ ماكو بطاطين نشيل جثث، وفي ٢٠٢٢ أرجو ان نبقى بشرا".


لايزال صراخهم في أذني