لتخليص 8 ملايين شخص من مخاطرها

عراقيات يفتشن عن الألغام في حقول البصرة: نتحدى التفجيرات.. والرجال!

بغداد - IQ  

"يقولون إن عملي خطر، وهذا حقيقي، إنه خطر 1000%، فأنا أتعامل مع متفجرات قد تنهي حياتي،" تقول هدى خالد، 33 عامًا، من مدينة البصرة في العراق، واحدة من المتدربات القلائل اللواتي دخلن مجال إزالة الألغام: "نحن العراقيين والعراقيات مررنا بظروف أصعب. لقد عشنا في سنوات مضت ونحن نشاهد التفجيرات أمام أعيننا، في الأسواق والشوارع، خطر إزالة الألغام يشبه حياتنا."

يعتبر العراق من أكثر دول العالم تلوثًا من حيث مساحة المنطقة الملغومة، حيث أدت الحروب والصراعات في تلوث مليارات الأمتار المربعة بالألغام والمخلفات الحربية. ويشير تقرير للأمم المتحدة عام ٢٠٢٠ أن الألغام والمخلفات الحربية تغطي مساحة ثلاثة مليارات متر مربع، ثلثها يوجد في محافظة البصرة. وتشكل هذه الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة وغيرها من بقايا الحرب تهديداً خطيراً على حياة المدنيين.


في محاولة لتسريع عمليات إزالة الألغام المستمرة منذ سنوات، أطلقت شركة البيرق، وهي شركة قطاع خاص متخصص في إزالة الألغام والمخلفات الحربية دورة تدريبية نسائية هي الأولى من نوعها في منطقة جنوب العراق، ومدينة البصرة. استمر التدريب 21 يومًا، وهو تدريب مجاني، وشاركت فيه 14 امرأة تدربنَّ على كشف الألغام والمتفجرات في مناطق خطرة جدًا، وحصلن على شهادات مهنية تتيح لهنَّ دخول مجال إزالة الألغام.


يقول وليد السعدون، المدير التنفيذي لشركة البيرق، المسؤولة عن التدريب، إن تجربة دخول النساء في العمل داخل حقول الألغام هي تجربة جديدة، وتعتبر الأولى من نوعها في منطقة جنوب العراق، لأن هذا العمل اعتبر لمدة طويلة حكرًا على الرجال. ويضيف: "لقد واجهت النساء المشاركات تحديات كثيرة بسبب العادات والتقاليد في جنوب العراق التي تحد من عمل المرأة بشكل عام، فما بالك في مجال كإزالة الألغام؟ ولكن أعتقد أننا تمكنا من كسر هذا التابو، إصرار المتدربات على خوض التحدي كان دافعًا كبيرًا لدعمهمنَّ والوقوف بجانبهنَّ."


خالد التي شاركت في التدريب تقول أنها لم تتلق أي دعم من العائلة بل على العكس، تعرضت للكثير من الانتقادات، وتضيف: "جزء من الرفض لفكرة عملي في هذا المجال يتعلق بالعادات والتقاليد، ولكن هناك جزء آخر يتعلق بالخوف، مجرد الحديث عن الألغام يُرهب الجميع. كنت أسمع انتقادات تقول أنني قد أفقد جزءًا من جسمي أو أتشوه نتيجة لانفجار لغم. وفي الواقع، شعرت بالخوف في البداية، ولكن بعد التدريب المكثف اختفت هذه الرهبة."


خالد لا تنظر لدخولها لمجال إزالة الألغام من منطلق جندري كونها مرأة، ولكن كعراقية وتقول: "لا أعترف بوجود مجال عمل خاص بالرجال وآخر خاص بالنساء، يجب أن يكون هناك مساواة في مختلف مجالات العمل. الدافع وراء مشاركتي في هذا التدريب هو تطهير مدينتي الملوثة بالمتفجرات والألغام منذ أكثر من 40 عامًا."


خلال التدريب ارتدت المشاركات سترات واقية من الرصاص وخوذات ثقيلة ويضعن دروعاً واقية للوجه، من أجل إزالة الألغام، بينما يمررن أجهزة الكشف عن المعادن الثقيلة فوق التربة. وبحسب هند حسين، 32 عامًا، متدربة وحاصلة على شهادة الآداب في الفلسفة، فقد شمل التدريب المكثف عدة مراحل شملت تحديد المناطق الخطرة بالألغام المتنوعة وكيفية إزالتها وإجراءات السلامة. وتشير حسين إلى أن أهلها يعيشون في خوف من خطورة دخولها هذا المجال الألغام، ولكنهم يشجعونها.


وتضيف: "أهلي وأصدقائي دائماً ما يرددون على مسامعي بأنهم فخورين بي. ولكن في المقابل، لا يزال الرجل الشرقي ينظر إلى المرأة على أنها غير قادرة على العمل في مجالات مختلفة منها إزالة الألغام، ولا أعلم هل السبب العادات والتقاليد، أم خوف من نجاحنا كنساء؟ أنا متأكدة أن بعض الرجال يخشون العمل بهذا المجال، فيما أثبتت المرأة العراقية نفسها وقوتها وكسرت كل الصور النمطية. ما يهمني هو فقط خدمة بلدي العراق الذي يمر في ظروف تحتاج إلى وقفة جميع أفراد الشعب رجالًا ونساءً."


وتعد البصرة المدينة الأكثر تلوثاً على مستوى العالم بالألغام والمقذوفات الحربية. وفي مقابلة مع نبراس فاخر التميمي، مدير المركز الإقليمي لشؤون الألغام في جنوب العراق، يقول إن سبب تصدر البصرة قائمة أكثر المدن تلوثًا بالألغام يعود لتاريخها الطويل مع الحروب بداية من الحرب العراقية الإيرانية في الفترة من 1980-1988 حيث زُرعت ملايين من حقول الألغام على طول الشريط الحدودي، ثم تلتها حرب الخليج الثانية عام 1991، وحرب الخليج الثالثة عام 2003.

ويضيف التميمي: "خلال الحربين الأخيرتين تم إلقاء ملايين القنابل العنقودية وخصوصًا غرب البصرة، وما زالت آثار هذه الألغام التي تفتك بالأبرياء ونسجل عشرات الحوادث سنويًا بسبب تلك المخلفات. تبلغ مساحة   التلوث الحالي حوالي  مليار ومئتين وسبعين مليون متر مربع لجميع أنواع التلوث، سواء كان تلوث بحقول الألغام والقنابل العنقودية أو الذخائر غير المنفجرة."


وتشير تقارير إلى أن أكثر من 55 مليون قنبلة عنقودية ألقيت على العراق بين العام 1991 و2003. كما زرعت الولايات المتحدة 120 ألف لغم، منها 28 ألف لغم مضاد للأفراد. وتعتبر الألغام المضادة للأفراد محظورة بموجب معاهدة حظر الألغام التي وقعتها 155 دولة، باستثناء الولايات المتحدة. ويحظر تصنيع واستخدام الألغام الأرضية، لأنها تهدد حياة المدنيين بعد فترة طويلة من انتهاء الحروب، وكونها لا تفرق بين المدني والعسكري، وأغلبية ضحاياها هم من الأطفال.


وعلى الرغم من جهود إزالة الألغام، أشار تقرير ريليف ويب أن 8.5 مليون شخص في العراق معرضون لخطر الألغام، حيث خلّفت الحرب مع داعش تلوث كبير في المناطق التي سيطر عليها، ففي مدينة الموصل (معقل التنظيم سابقًا)، هناك 8 ملايين طن من المتفجرات، كما يوجد في محافظة الأنبار حوالي 15،000 هكتار ملوثة بالعبوات، ومعظمها موجود في الرمادي ومدينة الفلوجة تسببت بها معركة تحريرها من التنظيم عام 2016.

بعد انتهاء التدريب، تأمل هند وهدى وباقي المشاركات أن تَتمكن من إيجاد فرصة عمل مناسبة، سواء في القطاع الحكومي أو الأهلي، أو الإلتحاق في العمل مع المنظمات الدولية داخل العراق. وتواجه كثير من العراقيات تحديات كبيرة في ايجاد فرص عمل بعد إكمالهنَّ التعليم الجامعي. إذ بلغت نسبة العاطلين عن العمل من النساء 31%، بحسب تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي، فيما بلغت نسبة البطالة بين الرجال 10.9%، وهذا يعني أن كل عاطل عن العمل واحد من الرجال يقابله 2.8 عاطل من النساء.


وتقول خالد: "لا يهمني حجم الخطر الذي يمثله هذا العمل، كل ما أتمناه بعد انهائي التدريب هو أن أتمكن من الحصول على فرصة عمل دائمة، وتطبيق كل ما تعلمته لإزالة أكبر عدد من الألغام وحماية الأبرياء الذين يقتلون أو يتشوهون نتيجة لانفجار لغم أو قنبلة".