يوم "التلاشي" و"الانهيار".. الجيش العراقي بين قيادتين

بغداد - IQ  

عند غزوها العراق عام 2003، لم تجد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة "ولو وحدة عسكرية عراقية واحدة قائمة"، كما صرح نائب قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي حينها، الجنرال جون أبي زيد.

وقتها بدا الأمر متناقضاً، فالنظام العراقي السابق كان يتوعد بـ"جعل بغداد مقبرة للغزاة الذين سينتحرون على أسوارها"، لكن على الأرض، فإن "معظم" الضباط والجنود، المنهكين من تتالي الحروب، "عادوا إلى منازلهم"، فنتيجة الحرب كانت واضحة بالنسبة لهم. واتفقت، بعدها، شهادات متعددة لضباط عراقيين على أن معنويات الجيش كانت منهارة، وأن السأم كان يسري في المعسكرات التي "دمرتها جميعاً عمليات السلب والنهب بعد الحرب".

ومع ذلك، بقيَ اختفاء الجيش العراقي وتلاشيه بسرعة موضعا للاستغراب وكذلك التندر من قوة نظام صدام حسين، ولم يكن الحديث عن وضع الأخير خطة تقضي بـ"اختفاء الجيش عن الأنظار عند وقوع الحرب مع نقل المعدات والذخائر الحربية إلى أماكن سرية أنشئت لهذا الغرض، وتجنب مواجهة قوات التحالف المتفوقة بإمكانياتها، ومن ثم شن حرب عصابات ضدها فيما بعد"، مقنعاً للكثيرين.

كان تعداد الجيش العراقي حين انتهت حرب الثماني سنوات مع إيران، يبلغ حوالي مليون جندي وتسلحه من عدة دول بينها أميركا وروسيا، قبل أن يتعرض لخسائر بشرية ومادية فادحة في "حرب الخليج الأولى" التي قادتها الولايات المتحدة لإخراجه من الكويت التي غزاها في 1991.

تشير الشهادات التي أدلى بها ضباط بعد سنوات من الغزو، بأن صدام لم يكن يثق بقدرة أو رغبة الجيش بالقتال هذه المرة، ولذلك فقد وضع أمله بالأجهزة الخاصة المرتبطة به مثل الحرس الجمهوري والفدائيين، لان النسبة الأكبر من هؤلاء مضمونو الولاء، كونهم من اقاربه وعشيرته او العشائر القريبة منه، وقد فضّلهم على سواهم بالامتيازات، لكنهم لم يقاتلوا سوى في معركة "المطار" ببغداد، حيث تعرضوا لخسائر كبيرة.

وأمام الواقع الذي وجدته الإدارة المدنية برئاسة بول بريمر، المعينة من قبل واشنطن لتحكم العراق حتى تشكيل أول حكومة وطنية بعد الإطاحة بحزب البعث، فقد كان هناك خياران: "استدعاء وحدات الجيش العراقي السابق، أو تكوين جيش جديد يضم أعضاء من الجيش السابق ومجندين جدد على حدٍ سواء".

وبالنظر لـ"تفضيل الجنرال أبي زيد للخيار الثاني"، ولأن "المجندين من الشيعة في الجيش السابق لن ينصاعوا لأوامر الاستدعاء من قادتهم السابقين ومعظمهم من السنة"، وكون استدعاء ذلك الجيش "سيكون بمثابة كارثة سياسية لأنه يمثل بالنسبة للغالبية العظمى من العراقيين رمزا للهيمنة البعثية السنية"، أعلن بريمر في 23 أيار 2003 حل وزارة الدفاع العراقية.

"جيش المستقبل في العراق لا يمكن أن يكون امتدادا للجيش السابق الذي أصبح أداة لخدمة الدكتاتورية"، قال بول بريمر الذي أمر بعد حل "جيش صدام"، بتشكيل قوات عراقية جديدة باسم "الحرس الوطني".

وقد التحق بالقوات الجديدة، التي ستتحول لاحقاً إلى نواة للجيش الحالي، عدد من الضباط السابقين وجنود قدامى ومتطوعون جدد وكان عديدها لا يزيد عن 50 ألفاً (غالبيتهم من الشيعة)، مسلحين ببنادق كلاشينكوف وعربات غير مدرعة في البدء.

الحرس الوطني: "وثني" في الجنوب وفي الغرب

لما بدأت القوات الجديدة تخرج للشوارع وتنصب نقاط تفتيش وتشارك في واجبات مع القوات الأميركية التي دربتها وسلحتها، في جنوب العراق وغربه، أطلقت الفصائل المسلحة المعارضة للغرب وأميركا، بطرفيها الشيعي والسني، لقب "الحرس الوثني" عليها وشرعت باستهدافها.

كانت المقاطع التي توثق قنص جنود الحرس الوطني وتفجير العبوات الناسفة على دورياتهم شيئاً مألوفًا في السنوات التي أعقبت تشكيلها.

في ذلك الوقت، كان المعارضون للنظام الجديد الذي خلف حزب البعث يتداولون مقاطع مصورة تُظهر إقامة احتفالات مذهبية شيعية في مقار هذه القوات في حين يعرض بعض الشيعة، مقاطع قديمة توثق اقتحام "جيش صدام" لمرقد "الامام الحسين بن علي (ع)"، في كربلاء وقصف جداره بصواريخ الدبابات.
في معركتي النجف والفلوجة عام 2004، كان الحرس الوطني يقاتل إلى جانب القوات الأميركية وسقط العديد من عناصره قتلى، وتعمقت الفجوة بينه وبين الفصائل العراقية المسلحة أكثر.

وبمرور السنوات، أصبح الحرس الوطني هو الجيش بعد توسيع هيكليته وإضافة أصناف جديدة له مع إبرام عقود ضخمة لتسليحه بلغت قيمتها، منذ 2003 وحتى وقت قريب، نحو 150 مليار دولار، وفق أرقام غير رسمية.

ومثلت "عقود التسليح" أحد أكبر ملفات الفساد في عراق ما بعد صدام، بينما كان "ملف الفضائيين" يقلل من عزيمة الجنود الفعليين.

اعتماد القائد العام للقوات المسلحة، الشيعي بالضرورة، -بناءً على منهج المحاصصة الطائفية في تقاسم الرئاسات الثلاث-، على القادة "مضموني الولاء" بغض النظر عن كفاءتهم وتدرجهم في الرتب العسكرية وتاريخهم المهني 

كان سلوكاً شائعاً في سنوات بناء وإعداد الجيش العراقي، وهو ما انتقدته القوى السياسية السنية كثيراً وحذرت من تبعاته في المستقبل.

وأسُندت الواجبات الخاصة، وتلك التي تحمل طابعاً سياسياً أكثر منه أمنياً، إلى أجهزة خاصة أو ألوية ترتبط مباشرة بمكتب القائد العام، مثل جهاز مكافحة الإرهاب أو "لواء المثنى"، فيما كان الجيش المنتشر بمناطق غرب العراق يتعرض بشكل دائم لعمليات استهداف قاتلة.

"الجيش بات مختلفاً"

في حزيران 2014، فوجئ العراقيون بانهيار قطعات الجيش العراقي في الموصل ومدن أخرى سيطر عليها تنظيم داعش بسهولة وشق طريقه نحو تخوم العاصمة بغداد بسلاسة بعدما استولى على أسلحة ومعدات تابعة للقوات التي انسحب وتشتت  أمامه، من ضمنها دبابات "أبرامز" وعربات همفي أميركية وأخرى مدرعة. حينها، كان الجيش مكوناً من 15 فرقة يبلغ تعداد كل واحدة 12 – 15 ألف جندي.

وبينما كان القائد العام للقوات المسلحة، وقتها، نوري المالكي يطلق الوعيد من بغداد ويتعهد بـ"استعادة الموصل خلال 24 ساعة" في 9 حزيران من ذلك العام، كان العديد من قادة الجيش والقوات الأمنية الأخرى هناك قد تركوا جنودهم وغادر بعضهم إلى إقليم كردستان، ولاحقاً ظهروا في مقابلات متلفزة يتبادلون التهم وتحميل المسؤولية للآخر.

"مع شروق شمس يوم 10 حزيران 2014 انتهى أي وجود فعلي للجيش العراقي في الموصل، حيث أخلى الجنود مقر الفرقة الثانية آخر معاقل القوات الامنية داخل الموصل، وخرجوا زمرا وافرادا بملابس مدنية أو نصف مدنية، وسط مدينة غارقة بالحرائق والدخان وبدأت تنتشر فيها اعلام الموت السوداء لتعلن حقبة جديدة عنوانها الموت وشعارها السواد"، يقول "ذنون بن متى الموصلي" وهو مواطن من الموصل عايش الأحداث ووثق ما شاهده باسم مستعار في كتاب اسماه "الموصل بين احتلالين".

لكن واقع الجيش العراقي "الذي بني بشكل غير صحيح وتدريب لا يعتمد عليه مختلف الآن"، كما يقول يحيى رسول الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة الحالي مصطفى الكاظمي في حديث لموقع IQNEWS.

رسول الذي لم يقدم أية إحصائية بعدد ضحايا الجيش خلال المعارك ضد تنظيم داعش، ويكتفي بالقول "قدمنا تضحيات كثيرة"، يؤكد أن الجيش خضع لعملية تأهيل وتطوير بعد الذي جرى في الموصل، وأن "هناك تقييم ومتابعة لأداء القادة فضلاً عن الاهتمام بالتدريب والتسليح لتعويض الخسائر".

وبات "اختيار الضباط يعتمد على الكفاءة والمهنية العالية والاحتراف"، وبالنسبة لـ"الفضائيين"، فليس هناك "فضائي واحد اليوم على ملاك وزارة الدفاع"، يقول اللواء رسول الذي شغل موقع ناطق باسم قيادة العمليات المشتركة العراقية خلال سني الحرب ضد داعش (2014 – 2017).

في تلك الفترة، كان الجنود العائدون من مناطق الحرب يتحدثون عن "خيانة" ضباط لجنودهم كـ"تسريب الخطط العسكرية وإبلاغ مقاتلي داعش بأعداد الجنود في محاور القتال"، وغيرها من المعلومات "ما أدى إلى وقوع جنود كثر قتلى أو أسرى".

يعلّق اللواء يحيى رسول على ذلك قائلاً، إن "موضوع الخيانات غير دقيق مئة بالمئة.. قد تحصل حالات وتسرب معلومات.. لكن بشكل غير مقصود".


قبالة المشاهد المصورة التي وثقت جوانب من "انهيار" الجيش في الموصل وغيرها من المدن التي سيطر عليها داعش، كانت هناك مشاهد ترمم معنويات الجنود وتحفزهم على القتال، تداولها العراقيون بكثرة حينها، من أبرزها المقطع الشهير للمقدم الركن علي النداوي الذي اعتلى مرتفعا صغيرا بين جنوده شاكياً بنبرة حزينة ومحفزة في الوقت ذاته ما تعرض له الجيش وطلب من الجنود الثبات وعدم التهاون في القتال، قبل أن يقتل من مسافة قريبة خلال معركة مع داعش في الرمادي عام 2015، وينصب له تمثالا في مدينته التي انحدر منها.