"لعل الجرائم تقلّ".. بائع كتب عراقي يدخل "تيك توك" ليشرح هيغل وسبينوزا

بلال حسن - IQ  

اللقاءات الصحفية وكاميرات التلفزة شيء معتاد في شارع المتنبي وسط بغداد وهي يوميّة ولا تثير الفضول دائماً، لكن عندما تحدّثت إلى حسين سعدون (44 عاماً) تحلّق بعض الأشخاص حولنا.


بضعة كهول وشبان وامرأة كانوا يصغون باهتمام لما يقوله بائع الكتب الذي ينشر محتوىً مرئياً في مواقع التواصل الاجتماعي يعرّف فيه بفلاسفة ومفاهيم ونظريات اجتماعية وعلمية ويسرد شيئاً من التاريخ.


يعمل سعدون على بسطة خشبية صغيرة في شارع المتنبي منذ 15 عاماً يعرض فيها كتباً في الفلسفة والتاريخ وروايات أدبية بعضها مستعملة يبيعها بأسعار متوسطة.


قبل 6 سنوات، ومع تدني نسب الإقبال على القراءة سأل نفسه وهو ينظر للبسطة على الرصيف بلا مشترين: "هذه ملحمة جلجامش وكتب لماركس وكيكجور وهيغل وكانت وسبينوزا وعلي الوردي وهادي العلوي. هل ستبقى أفكارهم نائمة هنا؟".


وقال لـIQ NEWS: "قررت يومها البحث عن بدائل لنقل ما تحويه الكتب إلى الجمهور"، فصوّر مقطعاً يتحدث فيه عن الأديب المصري طه حسين وشجعته نسب المشاهدة والتفاعل على تقديم المزيد.


"أراقب التعليقات واستمع لأحاديث الناس في باصات النقل وأسجل ما يجب أن أتحدث عنه، وردود الفعل تأتي جيدة".


ويضيف "أنا بحثت عن بدائل لقلة القراءة ولم أقف مكتوف اليدين. المجتمع العراقي يحب السماع لأنه أسهل ونسبة التعامل مع الورق متدنية والناس تتجه للوسائط الصوتية مثل البودكاست وتسمع في السيارة لجعل الطرق أقصر".


علامات الحب لدى الإنسان وتحليل السلوك البشري وفق علمي الاجتماع والنفس، وكذلك أنماط التفكير هي مواضيع أساسية يركّز عليها حسين في مقاطعه الرائجة في مواقع التواصل.

وتحدّث خلال لقائنا عن ارتفاع نسب الجريمة في المناطق العشوائية والفقيرة وربطها بالجهل والأمية العالية لذا فهو يعتقد أن صناعة المحتوى الثقافي ضرورية في العراق مع ترويجها بأساليب مباشرة وبسيطة.


وقال أيضاً إن "كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي يتحدث عن استخدام الحكام لوصفة الجهل وحصر المعرفة بهم ليسيطروا على الشعوب. حصر المعرفة بفئات معينة يعني كارثة".


لفت انتباهه مدون سعودي نشر تسجيلاً على بودكاست وحاز على 25 مليون مرة استماع، وقال "أي كتاب تُباع منه 25 مليون نسخة؟ أكبر كتاب في العراق لا تُطبع منه أكثر من ألف نسخة تنفد بعد سنة".


دخل سعدون إلى تطبيق "تيك توك" الذي يوصم محتواه غالباً بأنه "هابط" وأنشأ حساباً له وصار يحصد آلاف الإعجابات ومئات التعليقات.


وقاده نشاطه هذا إلى أن يكون ضيفاً في قنوات التلفزيون وندوات ومؤتمرات واحد منها في دبي.



لكن معارضين يقولون إن ما يقدمه مجرد اقتباسات وعبارات ونصوص مجتزأة لا تفي بشرح الأفكار والنظريات والفلسفة التي يتناولها بحيث "يخلّ بها ويجعلها أشياء مبتذلة فاقدة للقيمة المعرفية عندما تصبح شائعة بعد ذلك بهذا المستوى من الفهم والصورة".


ويدافع حسين سعدون عن نفسه قائلاً إنه ليس أستاذاً أكاديمياً يقدّم محاضرات متخصصة.


 "مَن المجتمع؟ العامل والكاسب والأمي. هل أحدثهم عن الفيزياء والأوتار الفائقة؟ من سيسمعني؟ أنا أحاول تبسيط المعرفة لأدنى طبقات المجتمع وإيصال أكبر قدر ممكن من المعلومات لهم بأقل الكلمات وهم أحرار في تقبلها إن كانت نافعة لهم أو لا".


وأضاف أن شكسبير "هو أهم روائي في الغرب تعرض مسرحياته في يوم وفاته الذي هو اليوم العالمي للكتاب، في الشوارع وتشاهدها الناس مجاناً".


"أزمة لها تداعيات مستقبلية"


ألّف محمد غازي الأخرس عدة كتب تعرّض في بعضها لقضايا المثقف في العراق خلال العقود الماضية واعتمد العمل الميداني خلال عمله على أحد أشهر كتبه وهو "كتاب المكاريد" الذي يتناول الطبقات الفقيرة.


كتب الأخرس في رسالة نصية بعثها لي من تونس، حيث يشارك ضمن الوفد العراقي في معرض الكتاب هناك، أن من المهم توظيف "تيك توك" ومواقع السوشيال ميديا الأخرى لترويج الثقافة وتقديمها إلى الشباب.


"لكن (هذه) الظاهرة يمكن أن تأخذ بعداً سلبياً إذا ما قُدم المحتوى أو الخطاب بشكل سطحي بحيث تبتسر الثقافة فتتحول أعمق الأفكار إلى مجرد اقتباسات عابرة".


ويضيف أن "هذه الظاهرة بدأت تشيع مؤخراً في العراق فبات هناك فئة من مُصنعي المحتوى تنتشر مشاركاتهم في مواقع التواصل فتراهم يثيرون انتباه الشباب إلى نوع من الأفكار التي يختصرونها باقتباسات أو أقاويل ُتنسب لفلاسفة وباحثين من الماضي والحاضر".


ويقول أيضاً "صحيح أن هذه الظاهرة يمكن أن تخدم الثقافة فتقربها إلى جيل شاب يبدو بعيداً عن الثقافة، لكنها تحمل جوانب سلبية بالمقابل، من ناحية أنها تبتسر الثقافة وتسطحها وتحولها إلى مجرد اقتباسات لا أكثر".


ويفصّل محمد غازي الأخرس وجهة نظره قائلاً أن "الأمر الآخر يتعلق بمتلقي هذا النوع من الترويج، وهم عموماً من جيل تفتح وعيه على عالم السوشيال ميديا حيث المعلومة السريعة وغير الموثوقة والعابرة وغير الجوهرية".


كما يصف الجيل الحالي بأنه "جيل خطير لا يعنى كثيراً بالتفاصيل قدر عنايته بالعناوين البراقة والبهرجة في الأقاويل الشائعة، ويبدو أن طريقة تفكيره تقولبت وفقا لهذا النسق، أي نسق العابر وغير الجوهري والسريع الأثر، الذي يشكل هوية للعصر".


"هنا تكمن الخطورة، فجيل التيك توك والانستغرام ليس جيل التسعينات والثمانينات وحتى الألفينات. جيل مهجوس بالشهرة السريعة، يحركه صناع محتوى يقدمون خطاباً سهل التداول والفهم ولا يبقى في الذاكرة طويلاً، بل لا يعمل على تعميق الوعي. إنها أزمة ستكون لها تداعيات مستقبلية".


بينما كنت أتحدث مع حسين سعدون، كان هناك شاب يجلس القرفصاء ويهز رأسه في كل مرة يرد فيها سعدون على أسئلتي.


سألته عن اسمه فقال إنه جُنيد، يبلغ 37 عاماً أكمل الدراسة المتوسطة والتحق بالجيش العراقي ويخدم حالياً في قضاء الطارمية شمالي بغداد وقد جاء مع صديقه للتعرف على حسين.


"إنه يوصل الفكرة بكل سهولة. تفاجأت به وبضعة كلمات منه نوّرت عقلي. سأتابعه منذ اليوم"، قال الجندي.