"من بغداد جلبت قططاً فأصابها الرعب"

عراقيون في أوكرانيا يروون لـIQ لحظة تلقيهم نبأ الاجتياح: "يوم قيامة" ثبتنا فيه.. لكن خساراتنا مرة

بلال حسن - IQ  

روى عراقيون يقيمون في أوكرانيا لحظة سماعهم بنبأ الاجتياح الروسي للبلاد التي يقيمون فيها منذ سنوات، فجر الخميس (24 شباط 2022)، وكيف تأثرت حياتهم بهذه الحرب المفتوحة على احتمال التوسع لتشمل أماكن أخرى وأن يكون النووي أحد أسلحتها.  

تحت وقع القصف في كييف، وعلى حدود بولندا وفي عاصمتها وارسو حيث يحتشد آلاف الهاربين من الحرب، سرد عراقيون ما حل بهم لموقع IQ NEWS:
 

المعاناة قدري الدائم   

مرتضى العامري (34 عاماً)، طبيب أسنان.

الخميس 24 شباط/ فبراير 2022 
الساعة 5:00 فجراً - كييف: 



لم يكن أحدٌ يتوقع اندلاع الحرب فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى تطمينات بعدم غزو أوكرانيا حينما كان الشك يسارونا بأن قواته ستتحرك يوم 16 شباط الجاري.

لكن في الساعة الخامسة فجراً من يوم الخميس، استيقظت على دوي قصف وقع في منطقة قريبة علينا داخل كييف مستهدفاً قواعد ومقرات عسكرية. هرعت من شقتي إلى الشارع وكان المشهد كأنه يوم القيامة بالنسبة للأوكرانيين لكنه لم يكن بالجديد عليّ لأنني شهدت فترة الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وكنت حينها في الصف الثالث المتوسط.

خرج الجميع من الحي الذي أسكنه من منازلهم فجراً واصطفوا في طوابير أمام آلات سحب النقود حتى توقفت هذه عن العمل، وكذلك تهافت الناس على الأسواق والمراكز التجارية وبدأت المواد الغذائية، وخاصة الأساسية تنفد وتختفي من الرفوف.   

أعيش في أوكرانيا منذ 10 أعوام وزوجتي من جزيرة القرم، والدها عراقي وأمها تتارية، تعرفت عليها في أثناء دراستنا طب الأسنان في خاركوف، ورزقنا بطفلين، يوسف (6 أعوام) وياسمين (3 أعوام).

أخذتهم جميعاً إلى العراق في العام الماضي على أمل توفر عيش أفضل هناك لكن خاب مسعاي، إذ لا يوجد عمل والبلاد تعيش أزمة كورونا كما شعرت بأن الناس تغيروا فلم أتمكن من التأقلم وأحسست طوال 9 أشهر قضيتها هناك بالغربة بين أهلي وناسي لذلك قررت العودة لأوكرانيا والحصول على شهادة ممارسة المهنة وكنت بعدما ينتهي الدوام أعمل في توصيل الطلبات.

مستقبلي الآن مجهول وكل ما بنيته وخططت له تهدّم. الحرب أعادتني إلى نقطة الصفر ولو كنت وحدي لتحملت بيد أن مسؤوليتي ثقيلة في ظل وجود الأطفال.

أفكر بالمغادرة نحو ألمانيا لكن المسألة صعبة. السفر يكلف 600 دولار للشخص الواحد بسبب جشع سماسرة النقل الذين يستغلون مثل هكذا أزمات ولذلك احتاج أكثر من 2400 دولار أميركي للانتقال مع زوجتي وأطفالي إلى مدينة لفيف القريبة من بولندا ورومانيا.

توجد قطارات تنقل بالمجان لكن الزحام عليها شديد وسمعت قبل يومين أن أحدها تعرض للقصف.

إذا بقيت هنا فسأعاني وعائلتي من الجوع عندما تنفد أموالي بعد شهرين. الحوالات المالية انقطعت واليوم أعطاني شاب عراقي هنا 200 دولار وأوصل أهلي في العراق نفس المبلغ لعائلته في الموصل. سأواجه ظرفاً أصعب بحلول موعد دفع إيجار الشقة أو نفاد الطعام. 

مع ذلك فأنا أحاول إخفاء الكارثة عن أطفالي وإبعادهم عن الجو العام ليبقوا في اطمئنان. خلال رحلتي الأخيرة إلى العراق احترقت نفايات قريبة على منزل عائلتي ومست النار قططاً كانت تأوي هناك فجلبتها معي إلى أوكرانيا وقالت زوجتي إنها ستعيش هنا بأمان وتلقى رعاية أكثر، لكن القطط لم تعد تأكل بسبب رعب دوي القصف.

حقاً لا أجد كلمة تعبر عن حالي وأفكاري مشوّشة. لا أستطيع استيعاب ما حصل. كيف بدأ كل هذا. لماذا لا تسير الأمور معي كما أخطط لها وأجد المشاكل أينما ذهبت؟ هل هو قدري؟ منذ سنوات وأنا أعيش المعاناة.

نفسيتي منهارة وهذه طفلتي تلاعبني الآن. يجب أن أذهب.

هربت من الموت في العراق فحاصرني هنا.. لا أريد سوى الراحة!

محمد السعدي (33 عاماً)، طبيب أسنان.

الخميس 24 شباط 2022.

الخامسة فجراً – كييف:  

كنت نائماً عندما طرق جاري الباب عليّ ليخبرني باندلاع الحرب ونصحني بأن أخرج من الشقة فوراً وأن أجد حلاً لنفسي.

نزلت إلى الشارع وكانت الأجواء تشبه غزو العراق في 2003، الناس تهرع للأسواق والمتاجر لشراء الغذاء.

وعندما اشتد القصف لم يعد ممكناً بالنسبة لي البقاء في المنزل خاصة وأنّي أجنبي ومعروف أن عصابات ما ستظهر وتستغل الفوضى.

أقيم في أوكرانيا منذ 2010. درست فيها طب الأسنان وتخرجت من الجامعة في 2017 ثم عدت إلى العراق قبل 3 سنوات وشاركت في احتجاجات تشرين وتعرضت للتهديد فرجعت إلى هنا لتأدية امتحان مزاولة المهنة.

كان هذا البلد فرصة كبيرة للعراقيين يحققون فيه أحلامهم، فالعراق وقتها كان خارجاً لتوّه من حرب طائفية سالت فيها دماء كثيرة وأعقبتها حروب. شعب أوكرانيا طيب والأسعار رخيصة، والأهم وجود القانون الذي هو حلمنا وحلم أهلنا.

منظر النساء والأطفال هنا والهلع الذي انتابهم إثر الاجتياح الروسي دفعني للبقاء في بادئ الأمر وكنت أحاول تهدئتهم وأطلب منهم بالأوكرانية أن لا يفزعوا، فأنا عشت غزو العراق في 2003 وهذه التجربة وما تلاها أبعدت عني الخوف في هذه المواقف، وكذلك فعل بعض العراقيين.

التحقت بمنظمة إنسانية تقدم المساعدات للناس، لكن ابن عمي وأصدقائي ألحوا عليّ واقتنعت بأن بقائي وعدمه سيان فغادرت كييف معهم نحو حدود بولندا في ثاني أيام الحرب ووصلنا بعد مشقة وعناء رفقة شباب من مختلف الجنسيات.

في خاركوف، المدينة الأوكرانية التي تبعد 45 كم عن روسيا وتشهد حالياً اشتباكات عنيفة، عشت 7 سنوات ويوجد هناك الآن عراقيون لم يتمكنوا من المغادرة مع نسائهم وأطفالهم وكذلك في مدينة سومي. الطرق تعطلت والجسور مهدمة. إنهم يعيشون مأساة بكل معنى الكلمة.

الحروب متشابهة أينما تقع. تدمر المدن وتقتل الناس. ما عشناه في العراق تكرر هنا. سأعود من وارسو إلى كييف عندما تحين الظروف المناسبة. منذ 2006، لا أريد شيئاً سوى أن أرتاح وها أنا لاجئ للمرة الثانية هرباً من الحرب.

 
عِدتُ صفراً   

سيف علي السعدي (32 عاماً)، مالك شركة لاستقبال وتسجيل الطلاب العراقيين والعرب في جامعات أوكرانيا. 

الخميس 24 شباط 2022.
الرابعة فجراً - مدينة دينبرو:



في اليوم السابق للاجتياح كنت في دينبرو أساعد طلاباً عراقيين لديهم مشاكل إدارية في الدراسة. قطعت 400 كم تقريباً قادماً من كييف وعند الرابعة فجراً أيقظني دوي انفجار وقع في مطار دينبرو فقررت لحظتها الرجوع إلى العاصمة ظاناً أنها لن تتعرض للقصف.

بعد 4 ساعات، أي في الثامنة مساء الخميس، وصلت إلى شقتي في كييف واطلعت على الأخبار في التلفاز: الصواريخ تنهمر على كل مكان.

وظبت حاجياتي الأساسية بأسرع ما يمكن ووضعتها في حقيبة ثم اتصلت بابن عمي ونحو 35 طالباً ممن أعرفهم لنخرج كلنا نحو حدود بولندا مستقلين باصات وسيارات شخصية ووصلنا إلى مقصدنا بعد يومين. مشينا وقضينا بعض الوقت في الشارع.

أقمت في أوكرانيا منذ 13 عاماً. درست وأنشأت شركة لاستقبال الطلاب العرب وتسجيلهم في الجامعات وتأمين السكن لهم. وفجأة خسرت شركتي وسيارتي نوع BMW 330 سعرها 28 ألف دولار، كما خسرت الأموال التي دفعتها كأقساط لتسجيل طلاب جدد لكنهم عادوا لبلدانهم فارين من الحرب وتحملت الخسارة وحدي. مجمل خسارتي بلغ حوالي 200 ألف دولار.

كنت أسعى لجلب زوجتي من العراق إلى كييف لنعيش معاً، لكني بدقائق خسرت كل شيء جمعته خلال 13 سنة، ولم أعد أملك سوى حقيبتي التي هربت بها.

الصدمة تعصف بي ولا يمكنني استقبال الأمر ببساطة. شركائي الثمانية خسروا أكثر مني وأحد أصدقائي اشترى 13 سيارة دفع رباعي من الولايات المتحدة قبل أيام بـ300 ألف دولار ليؤجرهن مقابل المال، لكنه تركهن خلفه وهرب من أوكرانيا ولا يعرف ما حل بهن.

المستقبل مجهول. وضعي فوق المنهار ولا أدري ماذا سأفعل. لا يمكنني العودة إلى العراق بسبب غياب الأمن العام والشخصي أيضاً فأنا تلقيت تهديداً بسبب ابن عمي الناشط في تظاهرات تشرين. كنت أساعده. كما لا أوّد لقاء أهلي وأنا عائد لهم بلا شيء. أنا صِفر الآن.