صناعة الدفوف في العراق: ربح لفئة و"ذنب" بعين أخرى وأداة الصوفيين لـ"ذكر الله ورثاء الحسين"

بغداد - IQ  

هو صوت الفرح والمناجاة والعيد، له وقع على القلب كما على الأذن، تناقله الناس بين "الشبهة والبدعة والتحريم"، فيما اقتصره السادة المتصوفة على حلقات الإنشاد الديني والمواليد والمدائح النبوية، الا أن تسميته بـالدف، لم يختلف عليها أحد، منذ خمسة ألاف سنة.


والدف هو آلة ايقاعية عربية قديمة، مكونة من إطار يسمى "الطارة"، يشد عليه جلد حيوان رقيق على أحد وجهيه، يحاط بإطار خشبي دائري، وتعلق على إطاره صنوج مستديرة من النحاس.


والدفوف الصغيرة، تأتي في كثير من الأشكال لكن أغلبها دائري، ووجد الدف في العديد من أشكال الموسيقى الشعبية، منها التركية واليونانية والفولك الإيطالية والكلاسيكية والفارسية .


والدف يرتبط بالعراق، بالصوفية الذين ينظمون مجالس دينية ويستخدمون الدفوف في الذكر والمواليد النبوية، وكذلك في زياراتهم لأضرحة مشايخهم ابرزهم عبد القادر الكيلاني، والسيد احمد الرفاعي .


كيف يصنع الدف


ويقول احد العاملين بصناعة الدفوف في سوق كركوك التراثي أسفل القلعة، ويدعى عبدالله حسن لموقعIQ NEWS ، إن "صناعة الدف في كركوك قديمة جدًا ولها ارتباط وثيق بالمتصوفة الدراويش، حيث نعد لهم الدفوف لاستخدامها في مجالس الذكر التي يقومون بها في اذكارهم أو عند زيارتهم مقامات مشايخ التصوف في العراق، ابرزهم الكيلاني ببغداد والرفاعي في جنوب البلاد".


ويؤكد حسن أن "الدف له احجام مختلفة منها الصغير والمتوسط والكبير، وأساس بناء الدف هو قطع من الخشب نقوم على إعداده بصورة خاصة، ويكون قليل السمك ويأتي حسب الحجم والطول، ويبدأ من متر واحد إلى ثلاثة أمتار، حيث تطوى بصورة دائرية وتثبت طرفيها، ثم نضعها تحت جهاز حديدي للكبس، وتليها وضع قطع من غشاء الجلد الرقيق الذي يستخرج من جلود الأغنام والمعاز".


أغلى أنواع الدفوف هو المصنوع منجلد الغزال والذئب، ويصل سعر الواحد منها إلى 200 دولار، بينما  يترواح سعر الدف العادي المصنوع من جلود الأغنام والماعز بين 25 إلى 40 ألف دينار عراقي، وفق ما يوضح حسن، الذي يقول أيضاً إن هذه الصناعة قتربت من الانقراض وبات العمل فيها هواية أو ممارسة تجارة صغيرة، ولها زبائن محدودين، وهم المتصوفة وأصحاب التكايا".



وعن نوعية الجلود المستخدمة وكيفية فصلها وتطويعها، يبين بائع الدفوف: "بعد ذبح الأغنام نحصل على الجلد ونضعه وسط كميات من الملح الخشن، لكي يحافظ على نقاوته، وبعد ساعات نقوم بفصل الصوف عن القطعة الغشائية المرتبطة بالصوف، وهي اشبه ما تكون بجلد الإنسان، ثم نقوم بغسل الجلد ووضعه في الملح مرة ثانية، ليحافظ على طراوته، ثم نقوم بقصه حسب حجم الدف"ز


ثم و"بعد وضع الجلد على قطعة الخشب الدائرية، نقوم بوضع قطعة خشب دائرية ومكبس الجلد على الخشب، ثم نقوم بدقه بقطع من المسامير، ليكون جاهزا ونضعه في الهواء، حتى يكون جاهزاً للاستخدام".


جلود الغزال والذئب الأغلى 


ويشير حسن إلى أن "أغلى أنواع الجلود هي جلود الغزال، والذئب وهو قليل جداً، حيث نحصل عليه حسب طلب الزبون، ويصل لنا من العاملين في مجال الجلود الطبيعية في كركوك وكردستان"، مبينا أن "سعر الجلد الواحد منها يتراوح بين 100 دولار إلى 300 دولار، حسب الحجم والطوال لكل منها".



البيعة أو الجلد وهدم المراقد للمتصوفة 


عندما دخل عناصر تنظيم "داعش" إلى مناطق في كركوك صيف 2014، وحتى استعادة القوات العراقية السيطرة على آخر تلك المناطق الحضرية في 2017، فرض التنظيم إجراءاته، "البيعة" لزعيمه السابق أبو بكر البغدادي (قتلته القوات الأميركية في سوريا لاحقاً)، كما فجُرت أكثر من 7 مراقد كان يؤمها الصوفيون في قضاء الحويجة (55 كم جنوب غربي كركوك) ونواحي تابعة لها مثل الرياض والعباسي والرشاد، فضلاً عن تحريم استعمال الدفوف، كما يقول علي النعميمي، وهو صوفي يسكن المدينة.

الجلد 30 مرة حتى اعلان التوبة 


مرةً، ركن صوفي دراجته النارية في سوق يقع في قضاء الحويجة في كركوك، وذهب لقضاء عمل ثم عاد وكانت مسجلة دراجته المتوقفة تبث أصوات الدفوف، فوجد عناصر من "داعش" مجتمعين قرب الدراجة وما إن علموا أنه مالكها قاموا بتكسيرها وجلد صاحبها الصوفي 30 جلدة "حتى أعلن التوبة مما عمله"، كما يقول علي النعيمي.



ويوضح النعيمي متحدثاً لموقع IQ NEWS، أن "الدف له مدلول روحي وديني، ونستخدمه عند زيارة مراقد الأئمة الإظهار والمشايخ الكبار، إلى جانب مقطوعات دينية للذكر، كما يستخدم من قبل الدراويش أيضا في الأذكار، كل اثنين وخميس في التكايا".

ويستخدم الصوفيون الدفوف في التكايا وعند زيارتهم مرقدي الشيخين عبد القادر الجيلاني وأبو حنيفة النعمان في بغداد، والسيّد أحمد الرفاعي في ذي قار، حيث يسافرون بالمئات لإقامة مراسيم الزيارة والذكر الخاص بهم.




والدف آلة قديمة جدًا، واستنادًا إلى المكتشفات الأثرية فالدف معروف في حضارتنا منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وأقدم الآثار عنه جاءت من بلاد ما بين النهرين، ويعود تاريخها إلى عام 2650 قبل الميلاد، وقد جاء هذا المشهد مرسومًا على جرة فخارية ملونة باللون القرمزي، ويمثل الرسم ثلاثة نسوة ينقرن على دف دائري بواسطة العصا.


ويختلف بعض الفقهاء في الحكم على ضرب (الدف والطبلة)، فذهب قسم منهم إلى إنكاره مطلقاً بحجة أنه من اللهو المنهي عنه، بينما ذهب قسم آخر إلى تقييده في مناسبات خاصة كالأعياد مثلاً، ومنهم من قصره على النساء فقط .


ولما كانت حلقات السماع (الإنشاد الديني والمدائح النبوية المصحوبة بضرب الدف) تقام عبر التاريخ الإسلامي وأكثر ما تقام في الطرق الصوفية، فقد امتدت ألسنة تلك الشبهة (جهلاً أو تجاهلاً) على حلقات السماع عند السادة الصوفية بدعوى، أنها لم تعرف في الصدر الأول من الإسلام، ولهذا فهي غير جائزة، ثم اتسعت رقعة هذه الشبهة لتشمل تحريم حتى المواليد النبوية الشريفة باعتبارها مشتملة على بدعة ضرب الدفوف ونقر الطبول فيما يزعمون.



والتصوف تصورات دينية انتشرت في العالم الاسلامي في بداية الأمر كنزعات فردية تدعو إلى العبادة و الزهد في الحياة، وذلك كرد فعل لزيادة الفساد والترف الحضاري.


ثم تطورت تلك النزعات، بعد ذلك حتى صارت طرقا وحركات منظمة ومعروفة باسم الصوفية، ولا شك أن ما يدعو اليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا، انما هي أمور من الاسلام الذي يحث على التمسك بها والعمل من اجلها، فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول الى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية.


وقد تنوعت وتباينت آراء الناس وتوجهاتهم نحو تلك الحركة لأن ظاهرها لا يدل على باطنها وجميع المؤرخون يتفقون على أن التصوف نشأ وترعرع في العراق، حيث برزت اسماء كبرى قد ساهمت بتأسيسه، منها: داود بن نصير الطائي، رابعة العدوية، معروف الكرخي، السري السقطي، الجنيد البغدادي، وغيرهم الكثيرون  .