أقدم مصوّرة في العراق

قارعت أنظمة وتدخل برتراند رسل وغاندي وخروتشوف لإنقاذها.. سميرة مزعل تتحدّث لـIQ (صور)

بغداد - IQ  

في مدينة العمارة جنوب العراق، تدأب المصورة المسنة سميرة مزعل على فتح محلها كل يوم لتواصل رحلتها في عالم التصوير والمستمرة منذ أكثر من نصف قرن.


وراثة التصوير


ولدت مزعل عام 1947 لعائلة تمتهن التصوير وتورثه لأبنائها، ودخلت سميرة هذا المجال قبل أن تدخل في الـ16 من عمرها، وقد حصلت على إجازة ممارسة المهنة من وزارة الإرشاد العراقية عام 1962، بعدما فقد والدها الذي كان يعد أقدم مصوري العمارة بصره بخطأ طبي.


وقتها، كانت آلات التصوير بدائية، وأهمها الكاميرا الشمسية، وهي عبارة عن صندوق خشبي ذو 3 قواعد وقطعة قماش تغطي رأس المصور.


وبعد عام من اشتغال سميرة مزعل، سليلة العائلة التي يمكلها الشغف بالتصوير، حتى بدأت المتاعب تقدِم عليها، وتطال أخوتها أيضاً، وهم من عائلة توارثت التصوير عن الأجداد.


بيان أدى لسجنها


وتقول مزعل لموقع IQ NEWS، إن "3 شبان جاءوا إلى محلي عام 1963، وهو العام الذي جرى فيه الانقلاب الذي أطاح بعبد الكريم قاسم، واعتبره "انقلاباً أسود" ليعرضوا علي تصوير ورقة بحجم (ِA4) مكتوب عليها (أرفعوا أيديكم أيها الجبناء عن المناضلين الأحرار)".


يومها، كانت سميرة مبتدئة بالتصوير، لكنها استطاعت تقديم أكثر من 700 نسخة من هذه الورقة للشبان الثلاثة وبجودة عالية بواسطة جهاز "لارجر" ألماني الصنع، كما تقول.


"لم أكن أعرف شيئاً عن هذا البيان، وفور انتهائي من تصويره قام الشبان بتوزيعه في الشوارع الرئيسة في العمارة وبعضها على مقربة من مقار الحرس القومي)، وفي صباح اليوم الثاني توقفت سيارة من نوع جيب عسكري عند بابنا".


كانت السيارة قادمة من دائرة الأمن، واعتلقوا سميرة مزعل وشقيقها، بعدما فتشوا محلها وعثروا على نسخة من البيان الشيوعي.



"بعد وصولنا إلى دائرة الأمن بدأ التحقيق معي وتلقيت ضربة على رأسي جعلت الدماء تسيل مني، فنقلت إلى المستشفى وبعدها إلى بيت المختار، وهناك كانت تنتظري معتقلات عدة أيضاً، ثم مررت بسلسلة من التحقيقات حتى حكم عليّ بالسجن 8 أعوام"، تضيف مزعل في حديثها لموقع IQ NEWS.


بعد مضي عامين على سجنها، تعرضت سميرة مزعل لوعكة صحية نقلت على إثرها لمستشفى في بغداد، وهناك طلبت من صحفي أن يلتقط لها صورة جرى تداولها لاحقاً في الصحف العراقية وانتقلت إلى الصحف العالمية.


الفيلسوف يتدخل


اطلع الكاتب والفيلسوف البريطاني برتراند رسل، وكان داعية للسلام، على الصورة فنظم حملة واسعة لإطلاق سراح سميرة مزعل، كما تقول، وشاركه رؤساء وقادة دول أمثال خروشوف وأنديرا غاندي.

ولدت هذه الحملة ضغطاً على العراق الذي كان يرأسه حينها عبد السلام عارف، ودفع السلطات إلى إطلاق سراح مزعل وأذيع بذلك بيان عبر الراديو، ومنها إذاعة "صوت الشعب".


لكن، لم يمض وقت طويل حتى اعتقلت سميرة مزعل ثانية، وقضت خلالها سنوات تتنقل بين سجون بغداد والعمارة والبصرة.


"عانيت في سجن البصرة كثيراً بسبب سوء حالتي الصحية جراء انفجار قرحة المعدة وسوء معاملة رجال الأمن وحتى بعض السجينات اللواتي كان أغلبهن فتيات هوى. كنت اتعرض للضرب بالالات الحادة والشتم والاساءة بكافة انواعها"، تقول سميرة خلال حديقها لموقع IQ  NEWS.


ومثل المرة الأولى، اضطرت حملة ضغط شعبية الرئيس عبد السلام عارف لإطلاق سراح مزعل بسبب صغر سنها، وفق قولها، لتعتقل وشقيقها مرة أخرى عام 1981 بتهمة الترويج ضد الحكومة وبقوا في السجن ثمانية أشهر.


عزت الدور يأمر بإعدامها


وفي 1991، عندما اندلعت "الانتفاضة الشعبانية" في وسط وجنوب العراق، دعمت سميرة مزعل هذه الحركة وقادت تظاهرة من منطقة الإسكان في العمارة وعبرت الجسر لتتحول إلى تظاهرة ضخمة تفرقت عند وصولها منطقة المحمودية.


وإثر ذلك، عمُم على مفارز الامن في ميسان كتاب رسمي بتويع نائب الرئيس وقتها، عزت الدوري، يأمر فيه بـ"إعدام سيمرة مزعل في أي مكان يلقى القبض عليها فيه"، كما تقول "إلا أنني تلقيت مساعدة من شرفاء عدة مكنوني من الوصول إلى بغداد وبقيت فيها حتى انتهاء الأمر".


رفيقة المتاعب


ولم تقف رحلة المتاعب عند هذا الحد، حيث استمرت المراقبة الأمنية لسميرة مزعل بعدما عادت لتفتح استديو خاص بالتصوير، وكان رجال الأمن يفتشونه باستمرار ويكسّرون أدوات التصوير خاصتها، ما دفعها إلى تغيير محل عملها حتى استقرت في استديو ضمن بيتها القريب من نقابة العمال في ميسان، وواصلت عملها وأصبحت أماً لطفلين بعدها.


معارض دولية


خدمت الطبيعة الاجتماعية لميسان، وتفضيل الأهالي أن تتولى نساء تصوير المناسبات العائلية، عمل مزعل، ومع ذلك انشغلت الأخيرة بالتقاط صور توثق وضع المرأة الميسانية ومعاناتها وكذلك حياة سكان الأهوار والمناظر الطبيعية للمدينة التي تخترقها الأنهار ونقلتها إلى المعارض الفنية المحلية والدولية التي شاركت فيها منذ سبعينات القرن الماضي.



"أخلاقيات مفقودة"


تتألم سميرة مزعل لكون الصور وتسريبها والتلاعب بها "بات يؤدي الآن إلى عمليات قتل، بينما كنا في السابق لا نتجاوز أخلاقيات التصوير ولا نتجاوز حدودها".


حتى اليوم، تدوام المصورة المسنة على فتح محلها الصغير كل صباح وتستقبل زبائنها من العوائل الميسانية الذين يشعرون بالآمان على صورهم عندها، وهي تملك معملاً صغيراً لتحميض الصور خاصتها.