"بيت الحكمة" مكتبة مفقودة شاهدة على تطور الرياضيات الحديثة

سلّطت هيئة الإذاعة البريطانية ("بي بي سي") الضوء على مكتبة "بيت الحكمة"، التي تأسست كمجموعة خاصة للخليفة هارون الرشيد أواخر القرن الثامن الميلادي، قبل أن تتحوّل إلى أكاديمية عامة بعد قرابة 30 عاماً من إنشائها. وعلى الرغم من أنها دمرت في القرن الثالث عشر، إلا أنها تركت إرثاً ثميناً لعلم الرياضيات


وبحسب تقرير نشره موقع "بي بي سي" هذا الأسبوع، فإن المكتبة الإسلامية المرموقة عملت كقوة فكرية كبرى في بغداد خلال العصر الذهبي الإسلامي بحيث جلبت الأرقام العربية المستخدمة في العصر الحديث ومهّدت المفاهيم الرياضية مثل الصفر المشترك، كما استقطبت المكتبة العلماء الذين جذبهم الفضول الفكري النابض بالحياة في المدينة وحرية التعبير، من أنحاء العالم نحو بغداد، بينهم علماء يهود ومسيحيون ومسلمون


ولم يتبقَّ أي أثر للمكتبة القديمة، لذلك لا يمكن التأكد من مكانها أو شكلها، ويحتاج تخيّل هذا الصرح العظيم إلى قفزة تخيّلية كبيرة، لكن هناك أمراً واحداً مؤكداً وهو أن هذه الأكاديمية بشّرت بنهضة ثقافية من شأنها أن تغيّر مسار علوم الرياضيات تماماً


أرشيف هائل


واحتوت "بيت الحكمة" على أرشيف هائل يشبه المكتبة البريطانية الحالية في لندن أو المكتبة الوطنية في باريس، ففي النهاية كانت مركزاً لا مثيل له لدراسة العلوم الإنسانية، بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك والطب والكيمياء والجغرافيا والفلسفة والأدب والفنون، إضافة إلى بعض المواضيع مثل التنجيم.


ودمّرت "بيت الحكمة" خلال حصار المغول لبغداد عام 1258. ويتطرق التقرير إلى أنه وفقاً لهذه الرواية، فقد ألقيت  مخطوطات عدة في نهر دجلة حتى تحوّلت مياهه إلى اللون الأسود من الحبر، لكن الاكتشافات التي أجريت هناك قدّمت لغة رياضيات قوية مجردة، تم تبنّيها لاحقاً من قبل الإمبراطورية الإسلامية وأوروبا والعالم بأسره في النهاية.


وتنقل "بي بي سي" عن جيم الخليلي، أستاذ الفيزياء في "جامعة سري"، قوله إن "ما يجب أن يهمنا ليس التفاصيل الدقيقة حول مكان إنشاء بيت الحكمة ومتى أنشئت، فالأكثر إثارة للاهتمام هو تاريخ الأفكار العلمية نفسها، وكيف تطورت داخلها".


ليوناردو دا بيزا


يتضمن تتبّع إرث علم الرياضيات لـ"بيت الحكمة" القليل من السفر عبر الزمن إلى المستقبل في ذلك الوقت. فلمئات السنين وحتى انحسار عصر النهضة الإيطالية، كان اسم واحد مرادف للرياضيات في أوروبا هو ليوناردو دا بيزا، الذي عُرف بعد وفاته باسم "فيبوناتشي".


ولد عالم الرياضيات الإيطالي في بيزا عام 1170، وتلقّى تعليمه الأساسي في بوجيا، وهي منطقة تجارية تقع على الساحل البربري لأفريقيا. وفي أوائل العشرينيات من عمره، سافر "فيبوناتشي" إلى الشرق الأوسط، مفتوناً بالأفكار التي أتت غرباً من الهند عبر بلاد فارس، وعندما عاد إلى إيطاليا نشر "ليبر أباتشي Liber Abbaci"، وهو واحد من أوائل الأعمال الغربية لوصف النظام الرقمي الهندي العربي.


عندما ظهر "ليبر أباتشي" للمرة الأولى عام 1202، كانت الأرقام الهندية العربية معروفة لعدد قليل من المثقفين وكان التجار والعلماء الأوروبيون لا يزالون يتمسكون بالأرقام الرومانية، الأمر الذي جعل الضرب والقسمة مرهقَين للغاية. وأظهر كتاب "فيبوناتشي" لاستخدام الأرقام في العمليات الحسابية، التقنيات التي يمكن تطبيقها على المسائل العملية مثل هامش الربح وتغيير الأموال وتحويل الوزن والمقايضة والفائدة.


وكتب "فيبوناتشي" في الفصل الأول من عمله الموسوعي، مشيراً إلى الأرقام التي يتعلمها الأطفال الآن في المدرسة، "أولئك الذين يرغبون في معرفة فن الحساب ودقته وإبداعه، يجب أن يعرفوا الحساب بالأرقام اليدوية. بهذه الأرقام التسعة والعلامة صفر، يمكن كتابة أي رقم مهما كان".


الخوارزمي


ويقول التقرير إن عبقرية "فيبوناتشي" العظيمة لم تكن فقط نتيجة لإبداعه كعالم رياضيات، ولكن لفهمه الشديد للقواعد التي عرفها العلماء المسلمون على مدى قرون: الصيغ الحسابية ونظام العد العشري والجبر. 


وفي الواقع، اعتمد "ليبر أباتشي" بشكل حصري تقريباً على خوارزميات عالم الرياضيات "الخوارزمي" الذي عاش في القرن التاسع والذي قدّمت أطروحته الثورية طريقة منهجية لحل المعادلات التربيعية. وبسبب اكتشافاته في هذا المجال، غالباً ما يُشار إلى الخوارزمي على أنه "أبو الجبر"، وهي كلمة ندين بها له. كما أنها كلمة عربية تعني "استعادة الأجزاء المكسورة"، وفي عام 821 هجرياً، تم تعيينه عالم فلك ورئيس مكتبة "بيت الحكمة". 


ويقول الخليلي إن أطروحة الخوارزمي قدّمت إلى العالم الإسلامي نظام الأعداد العشرية، التي ساعد آخرون، مثل ليوناردو دا بيزا في نقلها عبر أوروبا


وكان تأثير "فيبوناتشي" التحويلي في الرياضيات الحديثة إرثاً يرجع الفضل في جزء كبير منه إلى الخوارزمي. وهكذا تم ربط رجلين تفصل بينهما أربعة قرون من خلال مكتبة قديمة، حيث وقف أشهر عالم رياضيات في العصور الوسطى على كتف مفكر رائد آخر، حقق اختراقاته داخل مؤسسة إبداعية تعود إلى العصر الذهبي الإسلامي.


فيما يجادل البعض بأن "بيت الحكمة" لم تكن بالعظمة التي يتصورها كثيرون، لكن يقول الخليلي إن ارتباط تلك الأكاديمية بعلماء مثل الخوارزمي وعمله في الرياضيات والفلك والجغرافيا دليل قوي على أن المكتبة كانت أقرب إلى أكاديمية حقيقية، وليس مجرد مستودع للكتب المترجمة.


ويقول جون بارو غرين، أستاذ تاريخ الرياضيات في الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة، إن "بيت الحكمة مهمة بشكل أساسي، لأنه من خلال الترجمات هناك، حيث قام العلماء العرب بترجمة الأفكار اليونانية إلى العربية، التي تشكل حجر الأساس لفهمنا الرياضي"، فبقدر ما كانت المكتبة نافذة على الأفكار العددية من الماضي، كانت موقعاً للابتكار العلمي.


ويخلص التقرير إلى أن الإسهامات الرياضية الأكثر أهمية في علوم الرياضيات التي قدّمها ليوناردوا دا بيزا بدأت في مكتبة ببغداد منذ حوالى ألف عام، في وقت كان يعيش عدد كبير من المجتمعات الغربية المسيحية في ظلام فكري، وهي حكاية جديرة بتفكيك النظرة الأوروبية المركزية للرياضيات، وتسلّط الضوء على الإنجازات العلمية للعالم الإسلامي والدفاع عن الأهمية المستمرة للكنوز الرقمية التي تعود إلى زمن بعيد.