اغتيال هيبة إيران الأمنية والسياسية

ما بين الموقف الرافض لعملية الاغتيال التي تعرض لها العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة الذي يعتبر "أبو البرنامج النووي" لبلاده، وبين المواقف الصادرة عن العديد من المسؤولين ومواقع القرار في النظام الايراني، حول هذه العملية وردود الفعل التي ظهرت وأعلن عنها، هناك حالة من التخبط وغياب التنسيق وحتى عدم وجود الحد الأدنى من التنسيق لتقديم رواية موحدة، إن كان حول تفاصيل عملية الاغتيال، أو الخطوات التي من المفترض أن يلجأ إليها النظام رداً على هذا الاستهداف الذي أصاب في مكان موجع، وهز المنظومة الأمنية التي يتغنى بها في العمق.


ففي الوقت الذي تحدث فيه شهود عيان عن تفاصيل عملية الاغتيال عن قرب، كانت رواية النظام مستمرة في التخبط. الشهود أكدوا مشاركة أكثر من خمسة أشخاص في الهجوم على الموكب الذي يقل فخري زادة مع مرافقيه، ووصفوا كيفية حصول تفجير السيارة المركونة إلى جانب الطريق. بينما جاء تأكيد وزير الأمن في الحكومة محمود علوي الذي يلعب دور المنسق بين الأجهزة الأمنية المختلفة، عن توصل هذه الأجهزة إلى خيوط عدة ومختلفة تقود إلى الخلية التي نفذت هذه العملية، والحديث عن مغادرة بعض المنفذين الأراضي الإيرانية بعد ساعات من العملية.


بعد ذلك خرج أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الأدميرال علي شمخاني للحديث عن معرفة الأجهزة الإيرانية المسبق لمكان التنفيذ والشخصية المستهدفة، إلا أنها  لم تتعامل مع هذه المعلومات بالجدية المطلوبة، ونفى مشاركة عناصر من داخل إيران بالتنفيذ، كاشفاً عن نوع جديد ومتطور في عمليات الاغتيال باستخدام أسلحة موجهة عبر الأقمار الصناعية.


رواية شمخاني التي حاولت إبعاد تهمة التقصير عن الأجهزة الأمنية التي أهملت كل المؤشرات التي تحدثت عن إمكانية حصول هذه العملية، لم تقدم تسويغاً لكيفية وصول هذه الأسلحة التي ركبت على سيارة النقل واستخدمت في عملية الاغتيال ثم تم تفجيرها لإخفاء الأثر، وكيف وصلت إلى الداخل الإيراني، ومن ركنها إلى جانب الطريق الذي يسلكه موكب فخري زادة، وهل استطاعت هذه الأسلحة والأقمار الصناعية رصد تحركات الهدف والمسارات التي يسلكها في تنقلاته من دون مساعدة من عناصر تعمل على الأرض.


تخبط في الوعيد بعد سابق في الرواية


على الجانب الآخر لهذه الحادثة، المتعلق بالمواقف السياسية وآليات الرد الانتقامي عليها، برز مستويان مختلفان، إذ ساد الانسجام النسبي لدى المستوى العسكري إن كان من قبل مؤسسة الجيش النظامي أو مؤسسة حرس الثورة، وتمحورت مواقف قادة هاتين المؤسستين على حتمية الرد والانتقام بالوقت والزمان المناسبين وأنهما لن ينجرا إلى ردود انفعالية غير مدروسة، في حين ساد المستوى السياسي تناقض واضح وحتى متعارض بشأن الخطوات التي يفترض هذا المستوى اللجوء إليها، بخاصة ما يتعلق بالخطوة التي صدرت عن البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون والذي سارع إلى إقرار القراءة الثانية لمشروع القانون الذي يلزم الحكومة تخفيض التزامات إيران النووية في إطار استراتيجية إلغاء العقوبات المفروضة على البلاد.


فالاستعراض الذي قاده رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف بعقد جلسة برلمانية لإقرار القراءة الثانية لمشروع القانون الذي سبق أن أقر في قراءته الأولى قبل أسابيع، لم يخرج عن سياق المعركة التي يقودها ضد حكومة روحاني لتعزيز حظوظه في السباق الرئاسي وبهدف تسجيل قصب السبق على غيره من مراكز القرار في النظام، وأن يكون المبادر لرسم الإطار العام لمستوى الرد الإيراني على عملية الاغتيال، مع إدراكه بأن تحويل هذه القراءات إلى قانون يطرح على التصويت النهائي وينتقل إلى مرحلة الإلزام للحكومة يجب أن يمر عبر أكثر من مصفاة ليس أولها مجلس صيانة الدستور ولا آخرها مجمع تحديد (تشخيص) مصلحة النظام، مروراً بالمجلس الأعلى للأمن القومي الذي يعتبر الاتفاق النووي ومندرجاته من اختصاصه حصراً، فالقرار النهائي والاستراتيجي يتركز في يد المرشد الأعلى الذي يملك الحق في تحديد وتقرير الخيارات الاستراتيجية للنظام والدولة.


وإذا ما كانت القراءة الثانية لا تختلف عن القراءة الأولى لمشروع القانون، والذي يتضمن رفع مستوى تخصيب اليورانيوم في منشأة فردو إلى 20 في المئة ورفع مستوى التخزين داخل الأراضي الإيرانية وتوسيع شبكة أجهزة الطرد المركزي، وإعادة بناء مفاعل آراك للماء الثقيل، ووقف التعاون الطوعي في عمليات التفتيش المباغت في إطار البروتوكول الملحق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن هذه الخطوات جاءت مشروطة بعدة محددات أهمها عدم التزام الطرف الثاني في الاتفاق النووي، أي مجموعة 5+1، في تنفيذ تعهداته، وعدم عودة العلاقات البنكية إلى حالتها الطبيعية، وعدم إلغاء العراقيل أمام تصدير وبيع النفط ومشتقاته. وبعد التحقق من عدم تنفيذ هذه التعهدات فإن الحكومة ستكون ملزمة بتنفيذ هذا القانون بعد شهر من إقراره والتصويت عليه، أي أن مرحلة التنفيذ ما زالت غير واضحة المعالم طالما أن القانون لم يمر بالمراحل المفترضة ليصبح ملزماً.


اغتيال زادة يفجر صراع الأجنحة


حكومة روحاني لم تتأخر في الرد على المشهد الذي خرج به قاليباف في البرلمان، فأعلنت رفضها للإجراء الصادر عن النواب، بالاعتماد على مسلمة واضحة تقول إن البرنامج النووي لا يقع في إطار ونطاق صلاحيات البرلمان، والتأكيد على حصرية المجلس الأعلى للأمن القومي في الموضوع النووي، وأن الخطوة البرلمانية تعيد وضع إيران في مهب العقوبات الدولية عبر مجلس الأمن، وتعطي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما لم يستطع أن يحصل عليه من خلال العمل على تفعيل آلية فض النزاعات snap back التي حاول تمريرها عبر مجلس الأمن الدولي. لأن النتيجة العملية لمشروع قانون الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات لن تكون سوى عودة جميع العقوبات حتى تلك التي ألغاها الاتفاق النووي.


الخلافات داخل المستوى السياسي بين مراكز القرار في النظام الإيراني حول عملية الاغتيال وأزمة العقوبات والرهان على حصول تحول في المواقف والأوضاع بانتظار التغيير في إدارة البيت الأبيض، تسيطر عليها وتحركها مصالح انتخابية ومحاولة كل طرف تحقيق النقاط على حساب الطرف الآخر لاستخدامها في معركة السيطرة على السلطة التنفيذية في السباق الرئاسي المرتقب في حزيران (يونيو) من العام المقبل.