طالبان والعصر مابعد- الليبرالي

بغداد - IQ  

*حارث حسن

تطالعنا نيويورك تايمز في عدد اليوم بتقرير مطول عن توسع سيطرة طالبان على الاقليم الافغاني، بعد احتلالها لثلاث مدن رئيسية شمال البلاد، وغياب الرد الامريكي الحاسم. يمكن ذكر العديد من التفسيرات لما يعتبره التقرير تخليا امريكيا عن افغانستان: الانهاك من الحرب الطويلة وتكلفتها، تراجع القيمة الجيواستراتيجية لافغاتستان، محاولة اشغال جيران افغانستان كايران وباكستان وحتى الصين بالمستنقع الافغاني. لكن مهما كانت دقة اي من هذه التفسيرات، فان الرؤية الاشمل لما يحدث في افغانستان وفي الشرق الاوسط تتعلق بما يعتبره البعض نهاية "السلام الامريكي pax Americana"، اي ان الترتيبات الاقليمية التي رعتها القوة العظمى بعد نهاية الحرب الباردة وتعززت بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١ لم تعد قابلة للاستمرار.

فتكلفة الانخراط في بلدان متعددة وازمات كثيرة صارت تكلفة باهضة، كما ان طبيعة الوضع العالمي اليوم مع صعود قوى جديدة كالصين والانفجار السكاني والضغط على الموارد والتغير المناخي والوباء وما يرافق ذلك من ازمات اجتماعية اقتصادية حادة اصبح يتجاوز قدرة القوة العظمى ومؤسسات النظام الدولي القائمة على التعامل معه، بما يفرض على الامريكيين اعادة النظر في اولوياتهم الاستراتيجية وسياستهم الخارجية وهو امر كان يحدث منذ زمن اوباما ( وله مقدمات حتى في عهد نيكسون)، في اطار ما يعرف بتحويل الانتباه الى منطقة اسيا-الباسفيك الحيوية، وبشكل خاص لاولوية التنافس مع الصين.

تتحدث الادارة الحالية عن التزامها بالمباديء الليبرابية وحقوق الانسان ( خلافا لادارة ترامب )، بل انها جلبت في صفوفها بعض من الملتزمين الايديولوجيين بعقيدة الحماية الانسانوية ، واعادت الاولوية لمكافحة التغير المناخي والدفاع عن الديمقراطية، لكن -واقعيا - ليس هنالك الكثير مما يمكن لهذه الادارة فعله وسط ضغط الاولويات الجديدة والاستقطاب الداخلي الامريكي الذي لا يتجاوزه سوى اتفاق عام على تجنب مشاريع "بناء الدولة" في الخارج والتركيز على بنائها في الداخل بحسب تعبير اوباما في معرض نقده لسياسة سلفه بوش. 


يعيدنا ذلك لاستكشاف الطروحات التي انتشرت في السنوات الاخيرة عن العالم ما بعد -الليبرالي، حيث يتكاثر خصوم "الليبرالية" بوصفها ايديولوجيا "السلام الامريكي" ويطيحون بها في مناطق عدة تحت شعارات ومسميات قومية او دينية او طائفية، واحيانا يسارية.

ان تنتصر طالبان "الارهابية" على حكومة "السلام الامريكي" الفاسدة والمتهرئة، لم يعد احتمالا بعيدا ( وان لم يكن بالسهولة التي توحي بها بروباغندا طالبان)، ولكن نحن مجددا وكما حصل في سوريا وليبيا واليمن بعد ٢٠١١ والعراق بعد ٢٠١٤، نرى صعوبة ترسيخ نموذج الدولة الليبرالية العقلانية والقائمة على حكم القانون والمؤسسات بدون الانتهاء الى تجذير الفساد وغياب العدالة والخرق المنظم للقانون، ومن ثم مواجهة تهديد العصبيات وقدرتها على التعبئة والتغيير العنيف الذي يليه تقديم بدائل، غالبا ماتكون بدائية، تتغذى على سخط السكان من فشل الحكومات وتروج لفكرة ان "الدولة الحديثة" هي كيان غريب ولاينتمي عضويا لهذه المجتمعات.

 اننا هنا لسنا بمواجهة ازمات داخلية معزولة ، بل وضع عالمي متغير وانتقال يحمل بعض السمات الفوضوية وقد يتجلى بشكل عنيف هنا وهناك، وهو انتقال يعكس حقيقة ان هنالك علاقة وثيقة بين ازمة الدولة في البلدان الهشة، والوضع العالمي ومؤسساته التي لم تعد تستجيب لواقع اكثر تعقيدا مما عرفناه سابقا.