حس أخلاقي عند درجة الصفر

بغداد - IQ  

*فاضل السلطاني

تتحدث عن الظلم أو القمع في بلد ما، فيقولون لك: دعنا من السياسة. تدين طاغية هنا أو هناك، فينبشون في سجلك السياسي. تكتب عن بلد في الواق واق، لا يساوي فيه رأس مال الإنسان سعر سيكارة واحدة، فيرددون: لقد أفسد ماركس رأسك! بلد ينهد على رأسه، ويتحول في لحظة إلى مقبرة لأبنائه، ولا تملك سوى الصراخ، فيتهمونك بأن صراخك مدفوع الثمن. يافطة سياسية لا أستطيع حتى أن تقرأها يلصقونها دائماً على جبهتك، إعلاناً وتحذيراً مما قد تفعله أو تقوله.


ليست غريبة مثل هذه التصنيفات ذات البعد الواحد في مجتمعات تقلبت كثيراً بفعل هزات كبيرة في السياسة والاجتماع والثقافة، تركت تأثيرها البالغ على أخلاقياتنا، فازدهرت ظواهر مثل الازدواجية والنفاق والتلون مع الريح، كما نما التوجس والخوف والتخوين، وسوء النية تجاه الآخرين، حتى استبطن كل ذلك في النفوس، وشكل طبيعة ثانية للإنسان، بعكس طبيعته الأولى الصافية والنقية. وبالضرورة، تراجع الحس الأخلاقي إلى درجة مريعة.


 لم يعد أحد يصدق، ولا يريد أن يصدق، أن الوقوف ضد الظلم والقهر والقمع، والمطالبة بالعدالة والحرية والكرامة سواء في وطن المرء، وفي أي مكان من العالم، ينتميان إلى مجال آخر ليست له إطلاقاً أية علاقة بالسياسة، بمعناها الضيق، بل هو نقيض لها تماماً، اسمه: الأخلاق، التي ركناها للأسف في الزوايا في مراحل طويلة من تاريخنا القديم والحديث، كما فعلنا مع كثير من القيم الكبرى على عكس ما فعل التاريخ الأوروبي منذ القرن الثامن عشر. 


في هذا القرن وبعده، لم تستند حملة التنوير الكبرى التي دعا لها المفكرون والفلاسفة، ودفعوا في سبيلها أثماناً باهظة، إلا على قضية الأخلاق، قبل أي شيء آخر: أي أن يكون الإنسان جديراً بحمل لقب إنسان، وأن تكون إنساناً يعني أن تكون أخلاقياً، وأن تكون متنوراً يعني أن تكون أخلاقياً. 


وبكلام أبسط، أن تكون مع قضايا الحق والحرية والعدالة في أي مكان من المعمورة، وغير ذلك لا يساوي التنوير شروى نقير، مهما ثرثرنا عنه كثيراً. وللأسف هذه القضية لم تنل الاهتمام الكافي من قبل دارسي هذا المفصل الأساسي في التاريخ الإنساني.



لقد امتلك الإنسان الأوروبي عموماً عبر هذه الثورة الكبرى حساً أخلاقياً عالياً، استبطن في لا وعيه، وأصبح هادياً للتصرف السليم. ومع الزمن، تحول هذا الحس إلى منظومة أخلاقية شبه كاملة في الموقف من قضايا الحرية والعدالة والصدق. 


وهذه المنظومة لا يمكن تجزئتها حسب الموقف والزمان والمكان، وإلا تداعى بنيانها تماماً. فلا يمكنك، مثلاً، أن تدين طاغية بلدك، وتهلل لطاغية في بلد آخر، وتطالب بالحرية لك، وتغمض عينيك عن القمع في مكان ما، وكأن الأمر يدور في كوكب آخر.



هذه المنظومة الأخلاقية لم ينص عليها أي دستور أو قانون، ولم يفصلا قواعدها، وليست لها أية لوائح يمكن أن تستدل بها، بالرغم من أن الفلاسفة منذ فجر التاريخ مشغولون بها، بل حولوها إلى علم. الأمر لا يستحق كل ذلك. إنه بسيط جداً: كن إنساناً. وأن تكون إنساناً يعني أن تكون ضد كل ما يسحق جوهر وطبيعة الإنسان، ويقزّمه، ويحوله إلى مجرد حشرة بائسة تدب على الأرض.


بدون ذلك، لن يرتفع حسّنا الأخلاقي عن مستوى بركة هامدة لا ماء فيها.