ماذا فعلت نوال السعداوي؟


على مرّ التاريخ، وفي المعارك البرّية، تُرسل الجيوش جندي استطلاع يسبق جيشه ليكتشف موقع الخصم، وحجمه، ومظاهر تسلحه. ثم يعود بالخبر، قبل الطائرات بدون طيار، والأقمار الاصطناعية، وغيرها من مظاهر الذّكاء التي قتلت كلّ غموض. جندي الكشافة يكون، أحيانا، كتيبةً كاملة تسمّى كتيبة الاستطلاع. وكثيرا ما ينتهي بها الأمر إلى الاشتباك مع الخصم، وقد تُسفك دماؤها كلها، ثمنا لمهمّتها الاستطلاعية الخطيرة. الجندي والكتيبة معا على علم بالخطر، لكن من يدخل الجيش لا يختار معركته، ولا مكان مهمّته، وإذا كان الغريق لا يخشى من البلل، فإنّ الجندي لا يهرب من المعركة التي ذهب إليها عن إيمان.


قبل ذلك، كان قائدا الجيشين المتحاربين يتبارزان، وإذا انهزم ومات أحدهما قد يعني ذلك حسم المعركة، وتوفير العناء على البقيّة الذين يعودون إلى بيوتهم منتصرين أو مهزومين، من دون أن تُراق دماؤهم. حيث يدفع القائد دمه وشجاعته لحقنِ دماء جنوده. هي أمثلة كثيرة على تضحية فرد أو أفراد من أجل أمم كاملة. لكن لماذا هذه الأمثلة؟


إنّها محاولة لوصف نوال السعداوي، المرأة الشّجاعة التي نعاها بعضهم قائلا: قد تختلف معها أو تتفق، لكنّك لا يمكن أن تنكر تأثيرها، وقوّة شخصيتها .. وغير ذلك، وكأنّه يتبرأ من تهمة الاتفاق معها، لينعيها من دون أن يُحسب عليها، ولا يُحسَب مع الفئة التي نزلت عليها بالشّتائم ميتة وحية من جهة أخرى. كأنّنا إذا أردنا رثاء شخصيةٍ لا بد أن نتّفق معها. مع أن هؤلاء رثوا عشرات من الكتاب الذين لم يقرأوا لهم، ولا يعرفون شيئا عن الأفكار التي قد تتصادم مع أفكارهم، لكن لا أحد يسمع عن هذه الأفكار، لأنّها ليست متعلقةً بالمرأة، وهؤلاء وكثيرون غيرهم لم يقرأوا نوال، بل سمعوا عنها فقط، وشاهدوا مقتطفاتٍ من حوارات متلفزة لها.


إذ يمكن أن تكتب عن كلّ شيء ولا تُلام، إلّا المرأة. إذا كانت الكاتبات المعتدلات في الخطاب، إن صحّ التعبير، ينالهن كثير من الشتم والقذف، بسبب كتابتهن عن موضوع من مواضيع المرأة، فكيف بنوال؟ أتذكّر مرة نشر لي مقال في موقع مغربي، يُطالب باحترام شخصية دينية نسائية أُلقي عليها القبض، بتهمة القيام بعملٍ منافٍ للحشمة العامة، وتعرَّضَت المرأة للتنمر والشماتة والقذف والسّخرية في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام. طالب المقال بكفّ الأذى عنها، ومراعاة كونها امرأة في مجتمعٍ لا يرحم النّساء، خصوصا أنّ الشخص الذي ضُبط معها في الموقف نفسه، وهو شخصية دينية أيضا، لم يتعرّض لما تعرضت له هي من هجوم.


للسيّدة مشاعر، وما فعلته لم يؤذ أحدا آخر، فهي لم تقتُل، ولم تغتصب، على الرغم من أن ما قامت به يناقض الخطابات المبالغة في العفّة التي تتلوها على أسماع الفتيات، مانعة إيّاهن حتّى من النظر باعتباره فتنة، لكنها لم تُجبر أحدا على الاستماع إليها؛ جمهورها يذهب إليها بمحض إرادته. ولهذه السيدة أسرة وأبناء، لا يستحقون التّشهير بهم وبأمّهم، ومَن بيته من زجاج لا ينظر إلى أخطاء الآخرين، ويمشي حاملا أسماءهم. .. وردّ فعل على ما كتبت، تعرّضتُ، في صفحة الموقع الذي نُشر فيه المقال، لحملة هجوم حقودة، آذتني ووصفتني بعباراتٍ بذيئة، فيما ألا أحد منهم يعرف عني شيئًا.. تلك الليلة التي قرأت فيها التّعليقات المائة عن المقال لم أستطع النّوم. كان الموضوع مرعبا، ولم أتخيّل في حياتي أن أتلقى هذا الحجم الهائل من العنف، والسب والقذف والكراهية المجانية، فقط لأنّني طلبت الكفّ عن الأذى؛ فبرأيهم هذه المرأة يجب أن تُرجم، ومن تطالِب بإنصافها فهي مثلها. أما الرجل في القصّة، فكان موضوعا على الرّكن. سامحته زوجته وأولاده وعاد إلى الحياة.. حدثت هذه الواقعة قبل نحو خمس سنوات.


هل كانت نوال تعرف ما ستُواجهه من عنف قبل أن تعتنق أفكارها وتواجه بها مجتمعا يدوس على النّساء ويسحقهن، مثلما يدوس فيلٌ ظهر نملة لا حول لها؟ بالطّبع، كانت تعرف، ولم تتوقف لحظة للتراجع أو تأخذ استراحة، أو تظهر ضعفا أو ألما مما تُواجَه به. واجهت وحدها، لعقود، مجتمعا عربيا كان فقهاؤه يكادون يجمعون من المحيط إلى الخليج على الدعاء عليها، والتّشهير بها على منابر الجمعة. وكانت المثال الأسوأ الذين يسترشدون به للدلالة على رغبة الغرب في إفساد نساء العرب والمسلمين. أتذكّر كيف كان خطيب الجمعة في حيّنا ينطق اسمها مستبشعا ومحتقرا، كأنّ نوال هي الخطر الأكبر على الأمة، هي التي كانت جريرتها أنها تمرّ في الفضائيات، لتعبر عن رأيها مثل آلاف غيرها.


ماذا فعلت نوال؟ لم تكتف بدور جندي الاستكشاف الذي منحته إياها ريادتها، بل أصرّت أن تواجه الجيش الخصم وحدها، وهو لم يغفر لها ذلك. كيف لامرأةٍ واحدةٍ أن تملك هذه الجرأة وتصرّ وتواجه وتحاور وتناقش.. إنّه أمر أكبر من أن يتقبله. ماذا لو كانت إحدانا مكانها؟



لا يحتاج الأمر لعبة الاحتمالات، فهناك بالفعل نساء مثلها، يواجهن مجتمعاتٍ صغيرة، وأسرا مثلها، لكن الفرق أن المجتمع الذي واجهته يمتدّ من المحيط إلى الخليج، وربما يصل إلى باكستان والهند وبنغلاديش وغيرها. مع ذلك، عاشت حياتها وكتبت وسافرت وتزوجت وتفارقت مع أزواجها، حين لم يعد الزواج بهم يوافق روحها الحرّة والقوية وغير المهادنة. الفرق بين نوال السعداوي ومعظمنا أنّنا نهادن كثيرا، ونتفادى معارك كثيرة؛ إما لأنّها معارك أكبر منا، أو لا تستحق العناء، أو نؤجّلها إلى وقت آخر أنسب، وهي لم تفعل أيا مِن ذلك. واجهت وواجهت، ولم تطلب منا أن نقتنع بما تؤمن به، إنّها تقول ما تراه صوابا، وعلى الباقي التصرّف، وأخذ ما يريدون منه أو تركه كله.


هل يعقل أن ذلك لم يترك في نفس نوال ندوبا لا تبرى؟ وإلا لم طلبت أن تقتصر جنازتها على عائلتها؟ هي لم تكن وسط الضّجيج لأجلها، فهي أخذت ما تريده بيدها، ولا تحتاج لميكروفون لتأخذه، بل فعلت لأجلنا جميعا، نساء ورجالا؛ فالحرية لا تتجزأ، الحرية قرين الإنسان مهما كان فصله وأصله وجنسه.


ليست نوال مفكّرة ولا منظّرة، إنها مناضلة كرّست حياتها للفت الانتباه إلى فداحة وضعية المرأة. هل كانت صدامية؟ نعم، ولكن في سياقٍ يُعنّف المرأة بلا تردّد، وفي فترة كانت المرأة تعيش في عتمةٍ، كان لا بد من رفع الصّوت عاليا، ولا بد من المواجهة، ولن تقوم بذلك امرأة مهادنة، ولا امرأة تنظر خلفها، بل امرأة شجاعة حد التهوّر، وحالمة حد المغامرة، ومستقيمة حد التضحية بهناء بالها من أجل ما تؤمن به. إنّها امرأة نادرة، كان يمكن أن تتاجر بالقضية التي تدافع عنها، لكنها فضّلت النضال حتى آخر أيامها، دفاعا عما تؤمن به. لم تؤذ أحدا، لكنهم أصرّوا أن يرافقوا جسدها المتعب إلى مكانه الأخير، بكلماتهم السّامة، لحسن الحظ الموت لا يؤذي الموتى، ولا شتائم السفهاء تؤلمهم.




المصدر: العربي الجديد