العراق والاتفاق الصيني - الإيراني


أبرمت الصين مؤخراً اتفاقية مهمة مع إيران تمتد لمدة 25 عاماً وتشتمل على قطاعات مختلفة فيما بينهما، يتوقع أن تقود هذه الاتفاقية إلى تحولات جيوسياسية مهمة في المنطقة ولن يكون العراق بمعزل عن تداعيات ذلك. النقطة المهمة في هذا السياق تكمن في غياب الحوارات النقدية حول بنود ذلك الاتفاق، ناهيك عن عدم تسليط الأضواء على المعارضة الإيرانية عند بعض المثقفين حول هذا الاتفاق حيث خرجت بعض المسيرات -وان بشكل محدود- في بعض المدن الإيرانية للتنديد بذلك، قائلة إن "ايران ليست للبيع"، وهي الجزئية التي تغيب تماماً عن الرأي العام العراقي حيث لا يعرف عن تفاصيلها أي شيء يذكر بسبب عدم تطرق الإعلام المحلي إلى هذا الأمر، إذ لم يتم اللقاء بأي خبير ستراتيجي (حقيقي) من الداخل الإيراني للحديث عن ماهية مخاوفهم حول هذه الخطوة. علماً بأن مثل هذه الأصوات لا تتعرض إلى التخوين والعمالة كما يحصل في الحالة العراقية


مباشرة في أعقاب ذلك تصاعدت في الإعلام العراقي العديد من الأصوات التي نادت بضرورة أن يتوجه العراق الى تفعيل الاتفاقية التي يزعم بأنه وقعها مع الصين في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، حتى أن البعض بدأ يروج في الإعلام إلى أن الاتفاقية الإيرانية -الصينية مستوحاة بالأساس من الرؤية التي طرحها عادل عبد المهدي في حينها. وقد ذهب بعضهم بعيداً إلى القول بأن الحكومة الصينية قد طلبت من عبد المهدي أن يتحول إلى مستشار لشؤونها في الشرق الأوسط. وهو الرأي الذي تلقفته - وأيضا وقعت في فخه - الكثير من الأوساط العراقية وحولته إلى خطاب دعائي في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي


الغريب في الأمر أن رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، قد وجه بضرورة الشروع بتنفيذ بنود الاتفاق مع الصين. وكأنه بذلك حاول أن يتماها مع ما ظهر في الإعلام من ردود أفعال، وهو بذلك أعطى انطباعاً حول وجود تسرع لدى صانع القرار في صياغة مواقفه الستراتيجية دون أن يأخذ بنظر الاعتبار كيفية نظر الآخرين إلى هذه الخطوة، في وقت لا زالت الكثير من المنصات الإعلامية المحلية تهاجمه وتصنفه على أنه حليف وأحياناً تتهمه بأنه عميل للولايات المتحدة الأميركية، وتؤكد بأن قراره الأخير لن يشفع له في خلق تحول مهم في نظرة هذه الأطراف لدوره في المشهد العراقي.


حتى الان لا توجد هنالك إجابة منطقية في الأوساط الحكومية والمعرفية (الرصينة) لطبيعة ردود الأفعال المتوقعة من الإدارة الأميركية حيال ما يجري تحديداً ما يتعلق بالموقف العراقي الذي تدفع فيه بعض الجهات باتجاه الانخراط في الاتفاق الصيني- الإيراني. رغم ذلك هنالك الآن حاجة ماسة لمراقبة ورصد ما يصدر من جهات وشخصيات مهمة في الولايات المتحدة الأميركية تجاه هذه التحولات الكبيرة. حيث بدأت في الآونة الأخيرة تصدر العديد من الآراء والمقالات التي تحذر إدارة بادين من خطر تمدد التنين الصيني عبر الجغرافية الإيرانية إلى المنطقة التي تصنفها الولايات المتحدة الأميركية بأنها منطقة مصير مهمة لمصالحها ونفوذها.


من المتوقع ان تنظر مثل هذه الشخصيات إلى الثقل الجديد الذي بدأت تتصف به إيران بوجود راعي دولي يقف من ورائها في المنطقة. وبالتالي فإن مثل هذا الأمر سينعكس بشكل كبير على إمكانية زيادة الحضور الإيراني في المشهد العراقي بالضد من رغبات واشنطن. حيث ستتزايد مؤشرات إمكانية تصاعد الحضور الصيني- الإيراني في الاقتصاد العراقي في مرحلة مهمة من مراحل ما يعتقدها البعض أنها بداية حصول انتكاسة كبيرة في الستراتيجية الأميركية.


من المتوقع أيضاً أن تستغل الصين بشكل كبير هذا التغلغل الاقتصادي في المساهمة بإنتاج تسويات داخلية في العراق وربما العمل أيضاً على المساهمة في إنتاج تسويات عراقية -عربية تسمح لها بالعمل على مزاحمة النموذج الدبلوماسي الأميركي الذي عانى كثيراً من أجل إقناع المنطقة العربية بتقبل عراق ما بعد 2003.


كما سيفسر ذلك أيضاً على أنه محاولة لإنتاج محور مهم يمتد من بكين إلى طهران - دمشق عبر جسر التواصل البري المهم الذي تمثله بغداد. وهو محور ستراتيجي مؤثر سيعمل بشكل كبير على تضييق الخناق على حلفاء الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً في منطقة الخليج العربي. حيث تتصاعد المخاوف بشكل كبير من إمكانية دخول الصين إلى عمق التفاعلات الجيوسياسية في المنطقة وبطريقه (قد) تسمح لها بإنتاج قواعد عسكرية ثابتة تهيئ لها ولأول مرة في التاريخ المعاصر بأن يكون هنالك حضور رسمي لقواتها في واحدة من أهم دول هذا المحور.


هنالك الآن اعتقاد واسع في الأوساط الأميركية بوجود أطراف شيعية محددة في بغداد تعمل على الدفع باتجاه التماهي بشكل كبير مع موضوع الاتفاقية الصينية - الإيرانية. ما يعني ضمنياً بشكل أو بآخر أن هذا الطرف يسعى إلى إنتاج تحالف مع الصين على حساب خسارة أي علاقة ممكنة مع الطرف الأميركي، وهذا بحد ذاته يعتبر تحول كبير في طبيعة العلاقات الشيعية- الأميركية التي تعاني بالأساس من تدهور كبير


في ظل الحماس الكبير الموجود الآن في الإعلام للحديث عن هذا الاتفاق وامكانية تأثيره على الوضع العراقي، فإن هنالك نوع من التغافل عن قضايا أخرى مهمة قد تسمح بتخريب هذا المشروع بشكل كبير ومن بينها حجم الاستقطابات المحلية الكبيرة داخل العراق. إذ لازال عدد كبير من السنة والكورد يميل بشكل واضح وعلني إلى تواصل الشراكة مع الطرف الأميركي في مجالات مختلفة. وهو ما سيقود بشكل كبير إلى نوع من الصدام في الرؤية العراقية حيال آليات العمل على تطبيق فكرة الانغماس مع مشروع الاتفاق الصيني - الإيراني. وهي استقطابات ستؤثر كثيراً على مستقبل الجغرافية -السياسية الهشة في هذا البلد

ايضا هنالك راي اخر مهم من داخل الجغرافيا الشيعية في العراق ينتقد ممارسات بعض الاطراف الحكومية واصفا محاولاتها بفض الشراكة مع الطرف الاميركي بانه خطيئة جيوسياسية لا يمكن للعراق ان يتحمل عواقبها بسهولة، وبان الصين لن تكون مصدا حقيقيا يمكن الاحتماء به من جراء لعبة التنافس الصفرية Zero Game الواسعة المدى التي ستجرى على الارض العراقية في الاشهر القادمة من الزمن. سيعمل هذا الصوت المهم على انتاج مزيد من الدعم لرأيه الذي يميل باتجاه عقلنة وايضا اعادة تفعيل شروط العلاقة مع الطرف الاميركي بما يخدم مصالح العراق باعتبارها ستكون بديلا افضل من عملية الانخراط في هذا الاتفاق


من تابع خطاب بايدن اثناء عملية تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية يدرك جيدا بان خطابه كان يشير بشكل واضح وصريح الى الصين وروسيا باعتبارهما اهم خصوم الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة، وبان اي تغلغل (غير متفق عليه) من قبلهما في الساحات المهمة للإدارة الأمريكية سيعتبر بمثابة تحول خطير في بنية النظام الدولي الذي تسعى الإدارة الأميركية الى ان تكون حاضرة في رسم ملامحه دون املاءات او شروط من قبل الاخرين. كل ذلك يثبت بان على العراق ان يكون حكيما وحذرا في انتاج القرارات ذات البعد الجيوسياسي والتفكير مليا بدروس التاريخ قبل ان يرتكب خطيئة يصعب معالجة اثارها على المدى البعيد.


في مقال مهم كتبه الدبلوماسي الاميركي الخبير بشؤون العراق والمنطقة، روبرت فورد، عن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وطبيعة المكاسب التي تحققها الأخيرة في جبهات وساحات مختلفة بما فيها الجبهة الدبلوماسية، يؤكد بان مثلث القوة الدولية الذي تمثله موسكو- بكين- واشنطن لا يمثل اطرافا ملائكية باي شكل من الاشكال وان لكل طرف فيه مزايا وعيوب مختلفة. كعراقيين علينا هنا ان نذكر بان هنالك وهم كبير يحاول البعض الان العمل على تسويقه الى الراي العام يصور الصين على انها المنقذ للوضع العراقي. حيث تحاول بعض الاطراف ان تتناسى ان الصين لم تبدي اي خطوة حقيقية من اجل الضغط على نظام صدام حسين لتعديل سياساته الداخلية وتحديدا تجاه الشيعة، وانه لو قدر للصين ان تختار لما ترددت في الابقاء على نظام البعث متحكما بزمام السلطة طالما ان هذا النظام كان يعطيها مساحة كبيرة في مجال الاستثمارات النفطية.