تحالف إبراهيم في السياسة العالمية

البابا فرنسيس فاعل جديد في العلاقات الدولية. وفي حين أن معظم البابوات يحددون أجندة أخلاقية ويعززون الأخلاق المسيحية، فإن البابا فرانسيس تجاوز جدران الكنيسة وشارك في  صياغة العملية السياسية في قضية تغير المناخ. (المثال الأٍسبق كان يوحنا بولس الثاني، في مواجهة الشيوعية، خلال الحرب الباردة).

لكن فرنسيس مثال نادر، فمن خلال كتاباته ، وخطاباته ، ومناصرته ، أصبح ما يعرفه علماء السياسة كرائد أعمال سياسي، أي بالتعريف : شخصا يحدد قضية، ويقدم الحلول، ويمارس الضغط من أجل التغيير السياسي. (لم يفعل فرد ذلك على المستوى العالمي من قبل سوى رفائيل لمكين الفقيه البولندي الذي اخترع مصطلح الإبادة الجماعية Genocide وقاد حملة عالمية لتبني اتفاقية الإبادة الجماعية 1948).

البابا، شخصية من العالم الثالث (الارجنتين)، ورئيس أصغر دولة في العالم  (الفاتيكان) وممثل للكرسي الرسولي(رأس الكنيسة الكاثوليكية)، لهذا يجمع صفات نادرة ومتداخلة، ويجب ان نتفهم طبيعة التداخل وتأثيره على قراراته وصياغة سياساته. وقد وفر عمله في قضية سياسة المناخ دراسة حالة عظيمة للسلطة الأخلاقية على المستوى العالمي. نظرًا لأن الكوكب يفتقر إلى حكومة عالمية، فإن المتحدثين الرسميين الذين يمثلون المصالح العالمية (مقابل مصالح الدول) نادرون. علاوة على ذلك ، يقدم فرانسيس إطارا  أخلاقييا نادرا في عصر شديد العلمانية. في الواقع، من خلال أفكاره وأقواله وأفعاله، يتبنى ويجسد القيادة الأخلاقية في العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العالمية.

كان للكرسي الرسولي، دور بارز، من قبل،  في بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي عقدتها الأمم المتحدة مثل التأثير على مفاوضات ونتائج مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995 ، والدورة الخاصة للجمعية العامة لعام 1995 حول فيروس نقص المناعة (الإيدز) عام 2001. أما دوره في قضايا عدم الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، فهي الأكثر تعقيدا، بسبب مكانة بلدان  المنطقة الرمزية والروحية، وطبيعة النزاع الذي يجمع اتباع الأديان الإبراهيمية فيها. (حرب الخليج 1991 وغزو العراق 2003)، (النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي)، (الحرب في سوريا)، (الحرب في اليمن)، (الصراع مع ايران) الخ.

وبالاعتماد على الزيارة الأولى لبولس السادس إلى الأراضي المقدسة والآفاق بين الأديان التي فتحها المجمع الفاتيكاني الثاني، وضع يوحنا بولس الثاني الأساس لدور بابوي نشط في الشرق الأوسط. كانت رؤيته للشرق الأوسط الإبراهيمي تهدف إلى إحلال السلام في المنطقة، ويمكن  تصورها على أنها تحالف إبراهيم في السياسة العالمية.
وبالرغم من أن دور الكرسي الرسولي في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994  كان مثالا على النجاح،  لكن صعود الإسلام السياسي والتدخلات الغربية وانهيار عملية أوسلو للسلام أعاقت أي تقدم جوهري نحو الرؤية البابوية لتحالف ابراهيم في السياسة العالمية. أما فشل الربيع العربي وظهور الدولة الاسلامية في سوريا والعراق فقد وضع للتحالف أهمية راهنة ومستمرة.

وبعبارة أكثر تفصيلا، فقد واصل خلفاء يوحنا بولس الثاني رحلة الحج البابوية من أجل السلام. في حين كان بنديكتوس السادس عشر متفائلاً بما يكفي للضغط من أجل التغيير والترحيب بالربيع العربي بوصفه خطوة نحو رؤية  (ما بعد العلمانية) في المنظور البابوي، اختار البابا فرانسيس، الذي شهد الحرب الأهلية في سوريا وصعود الدولة الإسلامية، مسارًا سياسيًا ودبلوماسيًا أكثر فاعلية، ونقرأ  رحلته العام الماضي الى ابو ظبي والى العراق هذا العام في هذا السياق، كما يمكن أن نفهم وثيقة اعلان "الاخوة الانسانية" على انها  تجديد لتحالف ابراهيم في دعم السلام في الشرق الأوسط.

لا يثير تحالف أبراهيم في الشرق الأوسط غبطة أغلب المسيحيين في المنطقة، وكانت هناك أصوات مسيحية غاضبة، وجديرة بالسماع  في زيارته للعراق، فهي تعرف بإنه نظرًا لوضعها الضعيف في المنطقة، فإن  البابوية لن تستطيع تقديم دعم  جوهري لهم. وبدلا من ذلك تطالب هذه الأصوات العثور على حلول بناءة للضغوط المختلفة التي يواجهها المسيحيون في الشرق الأوسط. وفي العراق طالبت هذه الاصوات المسيحية الغاضبة بمواجهة البابا بحقيقة أوضاع المسيحيين المؤسفة، والتمييز المنهجي ضدهم، واحباط مشاركتهم السياسية في صناعة القرار الوطني، والنفاق السائد في خطاب النخب السياسية التي تجامل البابا عند زيارته لكنها تبدأ باضطهاد المسيحيين حالما يغادر.  لقد كان مشهد لقاء البابا بالسياسيين العراقيين، ومنهم من تلطخت يديه بدماء العراقيين فضيحة، وأهانة لمشاعرهم ومشاعر مواطنيهم المسلمين.
ما الذي لدى البابوية لتقدمه لهذا الجمهور الواسع الفاقد الأمل غير أقامة القداديس والدعوة الشفاهية للسلام؟. هكذا يختصر الناقدون دور البابا الذي يمر كحاج في أرض مقدسة، وليس ظلا لقوة عالمية فاعلة تحمل سلاحا خفيا يجترح معجزات تحويل النزاع السائل الى جسد سلام مستقر.  لقد شرحت في مقال نشر يوم أمس في موقع تعددية (الرؤية البابوية لمستقبل الشرق الأوسط)، وملخصه هو الدعوة البابوية لرؤية ما بعد العلمانية في الشرق الأوسط، وهي رؤية تُحاول خطَّ طريقٍ ثالث بين الإسلام السياسي والقومية العلمانية، مؤكدة على بناء حيز محايد، يمكن فيه للمسيحيين والمسلمين العيش في ظل الأُخوَّة الإيمانية الإنسانية. المسيحيون لا يدركون وسط مأسيهم ان هذه الرؤية قد تحمل الخلاص لمجتمعاتهم المتدهورة على المدى الطويل، وتنقذ بلدانهم من الانهيار والصراع.

وجدت هذه الرؤية  البابوية أهميتها بعد خيبات الربيع العربي، فعندما وصلت الاحتجاجات التي انطلقت من  تونس بعد بضعة أشهر ، إلى مصر ، أصبح الربيع العربي قضية مسيحية. احتج المسيحيون والمسلمون معًا ضد نظام علماني تعتمد سلطته أيضًا على القدرة على التلاعب بالمسلمين ضد الأقباط، وقد حمل الربيع  القصير بعض الثمار المرة لمسيحيي المشرق، وخاب أمل المسيحيين والمسلمين في تغيير إيجابي يضع بديلا مناسبا للدولة  القومية المتعسكرة، وعلى الرغم من دعم  البابا بنديكتوس السادس عشر عملية الدمقرطة التي كان يأمل أن ترتبط بهذا الربيع الإ إن النتيجة كانت مخيبة للآمال في مصر، ومرعبة في سوريا. ولم تخرج سوى تونس من عنق الزجاجة، لكن الأخيرة بعيدة جغرافيا، كأنها في عالم أخر، وليست مهمة لمسيحيي الشرق، كما لمشهد نهاية التنوع في الشرق الأوسط.

لا خيار أذن، سوى المجتمع ما بعد العلماني، والبدائل غير سارة ايها المسيحيون في الشرق الأوسط:  أما  الاتكاء على كتف رجل قوي لا تعتمد ديكتاتوريته بشكل أساسي على الموافقة المسيحية (سوريا الأسد) ، أو مواجهة نظام إسلامي منتخب ديمقراطياً في أحسن الأحوال (مصر مرسي) ، أو الحصول على تميثل رمزي (مقاعد كوتا) في بلد تحكمه القبائل الأثنية الكبرى (الشيعة/ السنة، الأكراد : العراق منذ عام 2003)، أو اسوأ الشرور (خيار الإرهاب المرعب للدولة الإسلامية).

على هذه الخلفية، فإن خيارات المسيحيين صعبة، وليس لدى البابوية من بلسم لهذه الحقيقة المرة : ان الوجود المسيحي  شديد التجزؤ وعلى حافة الانقراض. وإن تحالف أبراهيم في السياسة العالمية يحتاج، على الأقل، الى عقد من الزمن، في الشرق الأوسط، ليتحول الى حقيقة ملموسة، والى جهود متضافرة لجماهير تنتظر حقائب سفرها خلف الأبواب، وهي جماهير فاقدة الإيمان بالمستقبل، فالتغيير قد يحدث بنظرها، ولكنه سيكون بعد فوات الأوان.