البابا والسيستاني: لقاء بين لاهوت التحرير وولاية الأمة

لا تحتفظ سجلات التاريخ بلقاءات عابرة، إلا بالقدر الذي تحمله من دلالات في تاريخ مسيرة الشعوب والدول والحضارات. ولذلك فإن رمزية لقاء الحبر الأعظم البابا فرنسيس مع المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني في النجف الأشرف، تؤكد بأن الأديان محبة وتسامح، وليست صراعات وحروب، كما تريد لها جماعات العنف التي تحمل عناوين وشعارات دينية.

بابا الفاتيكان فرنسيس والمرجع الأعلى السيد السيستاني، لا يستمدان رمزيتهما فقط من العناوين والوظيفة الدينية، وإنما يعبران عن لقاء بين أطروحتين دينيتين تحملان مشروع تحرير المجتمع والإنسان من كل أشكال الهيمنة والتسلط والاستبداد السياسي.

فالبابا فرنسيس جاء من الأرجنتين ومن الكنيسة التي حملت مشروع (لاهوت التحرير)، والسيد السيستاني يعد أهم من جسد مبدأ (ولاية الأمة على نفسها) في فتاويه ومواقفه السياسية.

في سبعينات القرن الماضي كان الكاهن اليسوعي الشاب خورخي برجوليو ومن مدن الصفيح في الأرجنتين يحمل مشروع (لاهوت الشعب) في مواجهة النظام الدكتاتوري في بوينس آيرس، وكان ذلك مشروع الكنيسة الأرجنتينية التي تميزت به ضمن المشروع الأكبر (لاهوت التحرير). ولذلك منذ توليه بابوية الكنيسة الكاثوليكية، يؤكد البابا فرنسيس على مواقفه الصريحة والمؤيدة في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المحرومة ورفض الفساد.

لاهوت التحرير، الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، تحول إلى اتجاه ثوري للكنيسة الكاثوليكية في أميركا الجنوبية، ويهدف لإعادة تكييف علاقتها مع المجتمع، ويتبنى القراءة الثورية للمسيحية التي من خلالها أعاد بعض آباء الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية قراءة المسيحية لمصلحة الفقراء والمظلومين والمهمشين. ويحمل شعار التحرير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مواجهة نظم حكم متسلطة وديكتاتوريات، وإقامة دول ذات سيادة فعلية على مواردها وقرارها وسياساتها.

ويمثل السيد السيستاني امتدادا لخط مرجعية النجف الذي يؤكد مبدأ الولاية الخاصة للفقهاء ويرفض تبني (ولاية الفقيه العامة)، ويؤكد تمسكه بإرث المدرسة الفقهية النجفية التي رسخت مبادئ وأسس ولاية الأمة في إدارة الشأن العام، والذي كان الشيخ المحقق محمد حسين النائيني (1936) صاحب كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، أول من تبنى هذه الدعوة، والتي كانت تشكل بداية لتجاوز أطر الفكر الديني بالنظر إلى الجمهور، وتأسيس الدعوة إلى شرعية السلطة السياسية المنتخبة من قبل الأمة. ولذلك ثبت السيد السيستاني هذا المبدأ بقوله "إن الحكومة إنما تستمد شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره".

ومن خلال مواقفه وفتاويه بإزاء الأحداث والمستجدات في الشأن السياسي العراقي، ثبت السيد السيستاني مبدأ عاما لحوزة النجف الأشرف يقوم على أساس التعاطي مع القضايا المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع بعيدا عن مبدأ الولاية الفقهية للمرجع الأعلى، وإنما هي أمور من اختصاصات الدولة، وهي المسؤولة عن إدارة الشأن العام، ويجب أن يحظى النظام السياسي بالرضا والقبول الشعبيين، ويستمد نظام الحكم شرعيته من تمثيله للمجتمع وليس تطابقه لأيديولوجيا دينية.ولذلك دائما ما تتكرر في خطابات السيد السيستاني عبارات (الشعب هو مصدر السلطات)، و(الانتخابات العامة التي تعبر عن إرادة الشعب)، و(الدستور الذي يصوت عليه الشعب).

رمزية لقاء السيستاني بالبابا في أزقة مدينة النجف القديمة تعني في دلالتها لقاء بين مرجعيات دينية عليا تختلف في الانتماء الديني، لكنها تتفق على أن الدين هو مشروع للارتقاء بالإنسان والمجتمع، كما عبر عن ذلك البابا فرنسيس "إيماننا بأنه على الدين أن يخدم قضية السلام والوحدة بين جميع أبناء الله".

ولذلك كانت رسالة الطرفين واضحة في أن الرمزيات الدينية والروحية تتحمل المسؤولية في مواجهة ممارسة العنف بعنوان ديني، بعد أن تحول على يد الجماعات الإرهابية والعناوين السياسية الدينية إلى لافتات للعنف والقتل والتهجير.

من هنا دعا البابا فرنسيس في كلمته التي ألقاها في اللقاء بين الأديان في مدينة أور إلى عدم الصمت إزاء محاولات استغلال الدين وقال "ونحْن المؤْمنين، لا نقْدر أنْ نصْمت عندما يسيء الإرهاب إلى الدين. بلْ واجبٌ عليْنا إزالة سوء الفهْم"، والذي يتوافق مع تأكيد السيد السيستاني على أهمية الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من المآسي.

ودعا البابا إلى أن "تصمت الأسلحة، ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان، ولتتوقف المصالح الخاصة، والمصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام".

وتحدث السيستاني "عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية" فالسيستاني الذي يتبنى مبدأ ولاية الأمة على نفسها يرسخ بذلك الاعتراف بأولوية وعلوية المواطنة على الانتماءات المذهبية.

ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تتماهى دعوة بابا الكنسية الكاثوليكية مع خطابات المرجع الديني الأعلى، لأن كليهما يعبران عن خطاب ديني يؤمن بحقوق الشعوب أولا وأخيرا في حياة حرة وكريمة. إذ عبرت كلمة البابا فرنسيس في بغداد عن إدراك حقيقي لمعاناة الشعب العراقي، بقوله "إن الصعاب جزء من حياتكم اليومية، أنتم المؤمنين العراقيين، فقد كان عليكم وعلى مواطنيكم، في العقود الأخيرة، أن تواجهوا عواقب الحرب والاضطهاد، وهشاشة البنى التحتية الأساسية، وأن تناضلوا باستمرار، من أجل الأمن الاقتصادي والشخصي." ومن هنا دعا البابا إلى "التصدي لآفة الفساد وسوء استعمال السلطة، وكل ما هو غير شرعي، وينبغي في الوقت نفسه تحقيق العدالة، وتنمية النزاهة والشفافية وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك".

ودعوات البابا وتشخيصه لمعاناة العراقيين بسبب تراكم الأخطاء السياسية وسوء الإدارة والفساد، قد شخصها السيد السيستاني في أكثر من مناسبة، وكان يعبر عن همومهم بقوله "كفى للشعب ما عاناه من حروب ومحن وشدائد على مختلف الصعد طوال عقود من الزمن في ظل الأنظمة السابقة وحتى النظام الراهن"، ومنذ اليوم الأول لانطلاق التظاهرات في العراق كان خطاب مرجعية السيد السيستاني واضحا وصريحا بوقوفه مع جانب المتظاهرين، إذ وجه خطابه لشباب الاحتجاجات بالقول "إن أمامكم اليوم معركة مصيرية أخرى، وهي معركة الإصلاح والعمل على إنهاء حقبة طويلة من الفساد والفشل في إدارة البلد".

وعدت مرجعية السيستاني خروج المواطنين بتظاهرات مطالبة بالإصلاح هي خيار الشعب "للخلاص من الفساد المتفاقم يوما بعد يوم، والخراب المستشري على جميع الأصعدة بتوافق القوى الحاكمة".

ويمكن تلخيص رمزية اللقاء بين زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف، والحبر الأعظم بابا الفاتيكان بأنها رسالة لقدرة الأديان على الحوار وخدمة المجتمعات والوقوف بوجه الاستبداد والفساد إذا كانت لها رمزيات وزعامات تؤمن بضرورة فصل الدين عن السياسية، وإن وظيفة الدين خدمة المجتمع وليس التسلط عليه والتحكم به، وتحويله إلى أيديولوجيات للهيمنة والسيطرة ومصادرة حقوق الشعوب في الحرية والحياة الكريمة.