تجتاح أوروبا موجة حرّ غير مسبوقة في بداية موسم صيف 2025، وتثير مخاوف واسعة وسط تحذيرات من السلطات الصحية والأرصاد الجوية في دول عدة. وسُجّلت درجات حرارة قياسية في إنجلترا، وإسبانيا، والبرتغال، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا؛ حيث بلغ متوسط الحرارة في بعض المناطق أكثر من 40 درجة مئوية، متجاوزة الأرقام القياسية السابقة لشهر يونيو (حزيران).
وتزامنت هذه الموجة مع حوادث مؤلمة، مثل وفاة شخصَيْن في فرنسا، وآخرَيْن بينهما طفل في إسبانيا، ووفاة امرأة في إيطاليا يُرجح أنها بسبب ضربة شمس.
واندلعت حرائق غابات في كاتالونيا والبرتغال، وأُجبر آلاف السكان على ملازمة منازلهم. من جهتها، أعلنت فرنسا إغلاق أكثر من 1300 مدرسة كلياً أو جزئياً، وفرضت قيوداً على الحركة والنشاطات الخارجية.
وأُطلقت تنبيهات من الحرّ الشديد الذي وصفته الأمم المتحدة بـ”القاتل الصامت”، يوم الثلاثاء، في البرتغال واليونان وكرواتيا، وصولاً إلى ألمانيا والنمسا وسويسرا، بعد أن حطّم شهر يونيو الذي كان شديد الحرارة، الأرقام القياسية، متجاوزاً المتوسط الطبيعي ليوليو (تموز) وأغسطس (آب)، وكذلك الرقم القياسي السابق لشهر يونيو البالغ 22.8 درجة مئوية والمسجل عام 2017.
وفي سياق متصل، ذكرت هيئة “كوبرنيكوس” المعنية بتغير المناخ والتابعة للاتحاد الأوروبي، أن أوروبا أسرع قارات العالم ارتفاعاً في درجات الحرارة؛ إذ ترتفع درجة حرارتها بمثلَي المتوسط العالمي، في حين تحدث موجات الحر الشديدة في وقت مبكر من العام وتستمر لأشهر لاحقة.
ظاهرة “القبة الحرارية”
تُعزى هذه الموجة الحادة إلى ظاهرة “القبة الحرارية” التي تحبس الهواء الساخن فوق القارة الأوروبية، وإلى ارتفاع درجات حرارة سطح البحر الأبيض المتوسط بشكل غير اعتيادي. وقد حذّرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية من أن هذه الظواهر ستصبح أكثر تواتراً وحدّة بفعل التغير المناخي الناتج عن النشاط البشري، مما يستدعي التأهب والتكيّف طويل الأمد.
وأكد الخبير في علم المناخ بجامعة سانت أندروز في اسكوتلندا، مايكل بيرن، أن ظاهرة القباب الحرارية -عندما يُحبس الهواء الدافئ في الغلاف الجوي- ليست بالأمر الجديد. وأضاف لـ”وكالة الصحافة الفرنسية”: “الجديد هو درجات الحرارة التي تُحدثها القباب الحرارية. فالحرارة في أوروبا أعلى بدرجتَيْن مئويتَيْن مما كانت عليه في العصر ما قبل الصناعي؛ لذا عندما تحدث قبة حرارية تتسبّب بموجة حر أشد”.
ووسط هذه الظروف، شدّدت وكالات الأرصاد على أهمية التحذيرات المبكرة وخطط الطوارئ، في حين كثّفت فرق الإغاثة الأوروبية جهودها لمساعدة الفئات الأكثر هشاشة. ويجمع الخبراء على أن موجات الحر هذه تمثّل مؤشراً مقلقاً لتسارع التغير المناخي في القارة الأوروبية.
شهدت إنجلترا شهر يونيو الأكثر حرّاً منذ بدء تدوين درجات الحرارة اليومية سنة 1884، مع متوسّط حرارة بلغ 34 درجة مئوية، بعد ربيع كان الأكثر دفئاً، وفق ما أعلنت هيئة الأرصاد الجوية أمس (الثلاثاء).
وجاء في بيان صادر عن الهيئة أن شهر يونيو الثاني الأكثر حرّاً في عموم بريطانيا منذ 2023 “مع موجتي حرّ وحرارة مرتفعة في نهاية الشهر”.
وواجهت معظم أنحاء إنجلترا تحذيرات من ارتفاع شديد في درجات الحرارة هذا الأسبوع؛ حيث شهد يوم الاثنين أعلى بداية مُسجّلة لبطولة ويمبلدون؛ إذ ارتفعت درجات الحرارة إلى 33.1 درجة مئوية في هيثرو، و32.9 درجة مئوية في حدائق كيو، وفق صحيفة “إندبندنت”.
الحر يقتل في إسبانيا
وأعلنت فرق الإطفاء الإسبانية، أمس (الثلاثاء)، العثور على جثتَيْن إثر حريق اندلع في مقاطعة لاردا بإقليم كاتالونيا (شمال شرق) في خضمّ موجة حر شديدة تشهدها البلاد. وقالت خدمات الإطفاء والطوارئ، في بيان، إنّ “فرق الإطفاء عثرت على شخصَيْن ميتَيْن” بالقرب من بلدة كوسكو.
وفي منشور على منصة “إكس”، عبّر رئيس حكومة إقليم كاتالونيا، سلفادور إيلا، عن “استيائه” من مصرع هذَيْن الشخصَيْن.
وكان الإقليم شهد أيضاً وفاة طفل يبلغ من العمر عامَيْن، بعدما تُرك ساعات عدة في سيارة مركونة تحت أشعة الشمس في مدينة فالس، شمال تاراغونا. وأمرت سلطات الإقليم، الثلاثاء، نحو 14 ألف شخص بملازمة منازلهم بسبب هذا الحريق، وحريق آخر اندلع في الوقت نفسه تقريباً في مقاطعة لاردا.
وفي العاصمة الإسبانية مدريد، “الوضع أشبه بالفرن”، على حدّ قول الصحافية دانييلا دافيلا التي أصلها من أليكانتي.
البرتغال
سجلت البرتغال حراً قياسياً لشهر يونيو؛ إذ بلغت الحرارة 46.6 درجة مئوية في مورا، على بُعد نحو 100 كيلومتر شرق لشبونة، وفقاً لبيانات أعلنتها أمس (الثلاثاء) الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية.
وقال المعهد البرتغالي للبحار والغلاف الجوي، إن الرقم القياسي السابق سُجل عام 2017 في الكاسير دو سال (جنوب غرب)، مضيفاً أن 37 في المائة من محطات الأرصاد الجوية التابعة له سجلت درجات حرارة أعلى من 40 درجة مئوية يوم الأحد.
وُضعت مناطق عدة، بما في ذلك المناطق المحيطة بالعاصمة لشبونة، في حالة تأهب قصوى في اليومَيْن الماضيَيْن، بسبب موجة الحر التي اجتاحت معظم أنحاء أوروبا.
وظلّت ثماني مناطق داخلية لدى البرتغال في ثاني أعلى مستوى من التأهب، مع أعلى خطر لاندلاع حرائق غابات، خصوصاً مناطق الغابات في وسط البلاد وشمالها.
ألمانيا... أعلى درجة حرارة هذا العام
وفي ألمانيا، سجلت خدمة الأرصاد الجوية أعلى درجة حرارة في البلاد هذا العام حتى الآن؛ حيث بلغت 37.8 درجة مئوية مساء يوم الثلاثاء في مدينة كيتسينغن بولاية بافاريا، وفقاً لقياسات أولية، حسب ما صرح به متحدث باسم الهيئة. وبذلك تجاوزت هذه الدرجة الرقم القياسي السابق المسجل هذا العام في منطقة بورباخ بمدينة زاربروكن، الذي بلغ 36.2 درجة مئوية في 22 يونيو، حسبما أفادت “وكالة الأنباء الألمانية”.
وأشار المتحدث إلى أن درجات الحرارة ستبقى مرتفعة في الوقت الحالي، مضيفاً أن الرقم القياسي المسجل في كيتسينغن قد يتم تجاوزه بالفعل اليوم (الأربعاء)؛ حيث يُتوقع أن ترتفع الحرارة أكثر قليلاً. وقال: “حينها سنصل إلى الذروة، ومن الممكن جداً أن نصل محلياً إلى نحو 40 درجة مئوية”.
وحسب خدمة الأرصاد، من المتوقع أن تشهد بعض مناطق الجنوب بعد ظهر اليوم (الأربعاء) عواصف رعدية متفرقة، في حين ستتزايد العواصف الرعدية مصحوبة بأمطار غزيرة وبرد ورياح عاتية بدءاً من ساعات المساء في الشمال الغربي وبعض مناطق الشمال. ومن المتوقع أن تبدأ درجات الحرارة الانخفاض الطفيف بدءاً من يوم الخميس، مع تحذيرات محلية من سوء الأحوال الجوية، خصوصاً بسبب هطول أمطار غزيرة.
فرنسا... إغلاق المدارس وبرج إيفل
وفي فرنسا، تُوفي شخصان “نتيجة أمراض مرتبطة بالحر”، حسبما أفادت وزيرة الانتقال البيئي أنييس روناشير، يوم الأربعاء، وقالت روناشير: “تمّ نقل أكثر من 300 شخص إلى الرعاية الطارئة من قبل عناصر الإطفاء، وتُوفي اثنان نتيجة أمراض مرتبطة بالحر”.
ومنذ ظهر أمس (الثلاثاء)، باتت باريس المعروفة بكثافتها الحضرية وقلّة المساحات الخضراء فيها في حالة تأهّب قصوى من الدرجة الحمراء، وذلك للمرّة الأولى منذ خمس سنوات. ومع حرارة متوقّعة بحدود 38 درجة، حُظر استخدام السيّارات الملوّثة، وأُغلق الجزء العلوي من برج إيفل، وباتت المتنزّهات مفتوحة في الليل أيضاً.
ولم تنخفض الحرارة، يوم الاثنين، دون 27 درجة في شوارع باريس، وذكرت هيئة الأرصاد الجوية (ميتيو فرانس) أنه من المتوقع أن تبلغ درجات الحرارة ذروتها، يوم الثلاثاء، إذ ستتراوح بين 40 و41 درجة مئوية في بعض المناطق وبين 36 و39 درجة مئوية في مناطق أخرى عديدة. وتتخذ 16 مقاطعة أعلى مستوى من التأهب ابتداء من الظهيرة، في حين تتخذ 68 مقاطعة ثاني أعلى مستوى.
وأعلنت وزارة التعليم الفرنسية أن نحو 1350 مدرسة ستُغلق كلياً أو جزئياً بسبب الحر، بزيادة ملحوظة عن نحو 200 مدرسة يوم الاثنين.
وأُغلق الطابق العلوي من برج إيفل يوم الثلاثاء، وكذلك يوم الأربعاء، مع التنبيه على الزوار بشرب كميات كافية من المياه.
وأدت الحرارة الشديدة أيضاً إلى زيادة خطر اندلاع حرائق الحقول تزامناً مع حصاد المزارعين في فرنسا محصول هذا العام. وفرنسا أكبر منتج للحبوب في الاتحاد الأوروبي.
ولتجنّب الحصاد خلال ذروة درجات الحرارة بعد الظهيرة، عمل الكثير من المزارعين طوال الليل. وحظرت السلطات العمل في الحقول بين الساعة الثانية ظهراً والسادسة مساء في منطقة إندر وسط فرنسا التي شهدت موجة من حرائق الحقول منذ أواخر يونيو.
إلى ذلك، قالت شركة السكك الحديدية الوطنية الفرنسية إن رحلات القطارات بين فرنسا وإيطاليا توقفت “لأيام عديدة على الأقل” بعد العواصف العنيفة أول من أمس (الاثنين)، حسبما ذكرت “وكالة الصحافة الفرنسية”.
إيطاليا تقلص العمل في الخارج
حظرت مناطق إيطالية عدة العمل في الهواء الطلق خلال ساعات النهار الأشد حرارة، وفي الوقت نفسه، أصدرت إيطاليا تحذيرات من الموجة الحارة في 17 مدينة، من بينها ميلانو وروما.
وفي صقلية، أفادت وكالات أنباء بأن امرأة (53 عاماً) تعاني من مرض في القلب تُوفيت في أثناء سيرها بمدينة باجيريا، ومن المحتمل أن يكون ذلك بسبب ضربة شمس.
وأفادت التقارير بغرق رجل يبلغ من العمر 70 عاماً في منتجع سياحي بالقرب من تورينو؛ حيث أدت الحرارة الشديدة إلى عواصف وسيول مفاجئة، حسبما نقلت صحيفة “الغارديان” البريطانية.
وارتفعت حالات دخول وحدات الطوارئ في المستشفيات في أجزاء من إيطاليا بنسبة 15-20 في المائة خلال الأيام الأخيرة. وغالبية المرضى من كبار السن الذين يعانون من الجفاف.
هولندا وبلغاريا
وفي هولندا، أغلقت المدارس في روتردام وبربنت أبوابها ظهراً، مع توقّع بلوغ الحرارة 38 درجة، وهو مستوى غير معهود في البلد.
وفي بروكسل، أغلق معلم الأتوميوم الشهير بعد ظهر الثلاثاء ولغاية الأربعاء، بسبب اشتداد حرارة كراته المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ.
وتعرّض موجة الحرّ هذه “ملايين الأوروبيين لإجهاد حراري شديد”، حسب “بورغيس” التي تقرّ بتكيّف المدن مع هذه الظاهرة، لكن بوتيرة بطيئة جدّاً. وتقول سامانتا بورغيس، عالمة المناخ في مرصد “كوبيرنيكوس” الأوروبي، لـ”وكالة الصحافة الفرنسية”، إن “هذا الحدث غير اعتيادي... فهو يأتي في فترة مبكرة جدّاً من الصيف وفاقمه التغيّر المناخي على الأرجح”.
وتلفت سامنتا بورغيس إلى أن “الحرارة في أوروبا ترتفع بوتيرة أسرع من المعدّل العالمي” بسبب قرب القارة من أركتيكا التي تشتدّ حرارتها بوتيرة أسرع بواقع 3 إلى 4 مرّات، لكن أيضاً للمفارقة بسبب تحسّن نوعية الهواء إثر التشريعات البيئية المعتمدة. فانخفاض الهباء الجوّي الملوّث الذي يعود بالنفع على الأوروبيين يعني أيضاً أن “السماء باتت أكثر انقشاعاً”، مما يسفر عن مزيد من الحر، حسب العالمة.
تركيا
وأجبرت موجة الحر عشرات الآلاف من الناس على إخلاء منازلهم في تركيا بسبب حرائق الغابات.
واشتعلت الحرائق، يوم الأحد، حول إزمير بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وحذّر وزير الزراعة والغابات التركي من ازدياد شدة الرياح في الأيام المقبلة. وأشار إلى أن ستة حرائق لا تزال مشتعلة في البلاد، تغذّيها رياح قوية من المرجح أن تشتد في الأيام المقبلة، لا سيما في منطقتي هاتاي وأنطاكيا (جنوب)، “الأكثر إشكالية”، حسب الوزير.
تشهد تركيا التي بقيت في الأيام الأخيرة بمنأى عن ارتفاع الحرارة الذي ضرب جنوب أوروبا، موجات جفاف متكررة بسبب تغير المناخ.